يمتلك علاء الديب بصمته الخاصة والمهمة، قاصا وروائيّا وناقدًا ومثقفًا مؤثرًا، ولا أظن أننا يمكن أن نرسم صورة لجيله دون أن نعود إلى أعماله، ودون أن نكتشف أبطاله الذين عبّر عن شخصياتهم المأزومة والمعلّقة بين سماء الحلم وأرض الواقع.واللافت أن طريقة علاء الديب، صاحب روايات زهر الليمون، وأطفال بلا دموع، وقمر على المستنقع، وعيون البنفسج، وأيام وردية، فى تفكيك عناصر الأزمة الفردية وحالة الاغتراب والقلق، قد تجلّت فى أعماله المبكرة، حتى قبل أن تستحكم الأزمة بهزيمة 1967، وبسنوات الانفتاح التى كرّست أشكالًا أكثر تعقيدًا من الاغتراب.من هنا تأتى أهمية هذه الطبعة الجديدة الصادرة عن دار الشروق لمجموعة علاء الديب الشهيرة القاهرة، والتى صدرت لأول مرة عام 1964 فى سلسلة «الكتاب الذهبى» المعروفة، وكانت تحكى عن نماذج مبكرة للاغتراب، سواء فى قصص المجموعة القصيرة، أو فى الرواية القصيرة التى تحمل اسم القاهرة، والتى يضمها الكتاب أيضًا.تدهشنا هذه الرواية المبكرة على مستويين: الأول: هو طريقة السرد المختزلة والمكثفة والشاعرية أحيانًا، والتى تبدو مختلفة عمّا كان سائدًا وقتها. والمستوى الثانى: هو هذا التعبير القوى عن الوحدة والقلق والملل، وربما عن العبثية واللا معنى، وكلها عناصر مرتبطة بالتأكيد بأسئلة وصراعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبأصداء الفلسفة الوجودية وكتابات مسرح العبث.فتحى بطل رواية القاهرة شاب وحيد، يعيش حياة رتيبة مملة، يعمل موظفًا فى المتحف الزراعى، ويبدو متأففًا وقلقًا وباحثًا عن معنى لحياته. وصل إلى سن الخامسة والثلاثين، لديه عشيقة وأخ مريض وأخت وحيدة، وعالمه محدود، وكأنه فى دوامة بلا نهاية. وبينما يصف نفسه بأنه «عربة خربة ملقاة فى وسط الصحراء»، فإن حياته اليومية الخانقة فى القاهرة تجعله سجينًا لذاته، وكلما زادت الرتابة وامتد السأم، كلما ابتعد عن الآخرين، ولجأ إلى ذاته، مقتلِعًا جذوره، محاولًا ترويض مخاوفه العميقة.رجل الشرنقة هذا سيقتحمه حدثان: الأول هو معرفته أن عشيقته عقيلة تنتظر طفلًا منه، والثانى هو موت شقيقه أحمد. «ميلاد وموت» يكسران الدائرة، ويضعان فتحى فى مواجهة حياته ووحدته ومخاوفه وشعوره العميق باللا معنى.وإذا كان موت أحمد لا اختيار فيه، فإن مستقبل علاقته مع عشيقته التى تطالبه بالزواج يحتاج إلى مواجهة وقرار، وسيكون اختيار فتحى غريبًا بقدر أزمته، وبقدر الضغوط الداخلية، وبقدر شقائه العقلى والنفسى.من حياة لا يحدث فيها شىء، سيرتكب فتحى حدثًا يهز المجتمع نفسه، وبما يذكرنا بتقاطع «غريب» علاء الديب مع «غريب» ألبير كامى. يأخذ فعل القتل فى الحالتين معنى فلسفيّا، ويبدو كما لو كان محاولة للانعتاق والتحرر، أو لعله الفرصة الأخيرة لمواجهة العبث والسأم الذى لا شفاء منه ولا معنى له.وافق فتحى على الزواج من عشيقته ردّا على اتهامه بالجبن، ولكنه خنقها وهى حامل، لأنه – كما قال فى المحكمة – لا يريد تكرار التراجيديا الإنسانية بإنجاب طفل. الطفل سجن جديد مثل السجون التى تحاصره، وهو بعيد عن الجميع، عن البشر، وعن مدينة الضباب والرماد.نظلم الرواية كثيرًا بهذه الخطوط العامة، لأن براعتها فى سرد علاء الديب الذى يجسّم هذه العزلة الداخلية. ورغم أنه استخدم صوت الراوى العليم، فإننا نرى الشخصيات فى أعمق مشاعرها، وكلها منعزلة ووحيدة ومثيرة للتعاطف: فتحى وعقيلة، وأحمد وشقيقته فتحية، وكذلك خالة عقيلة.لا ثرثرة ولا إسهاب، بل عبارات قصيرة دالة، دون إغراق عاطفى أو وجدانى. فالحكاية «فلسفية» بالأساس، وعلاء الديب يختزل الوصف أحيانًا فى كلمة، ويفتح على تيار وعى الشخصية، ويستخدم كذلك تكنيك المونتاج المتوازى بالانتقال بين حدثين.إذا عدنا إلى قصص المجموعة الأخرى سنجد أيضًا أبطالًا يشعرون بالوحدة والملل، محاصَرين داخل روتين معتاد، يحلمون بالتحرر، ويحاولون – بطرق مختلفة – البحث عن معنى وهدف لحياتهم، خصوصًا عندما يتقدمون فى العمر، ولكنهم لا ينجحون فى أن يجدوا هذا المعنى.شخصيات تشقى بعقلها وتفكيرها، قلقها وجودى حتى لو كانت شخصيات عادية لا تستطيع أن تعبر عن نفسها بالكلمات. تصف شخصية سبب أزمة بطل إحدى القصص بعبارةٍ بليغة تصلح لوصف معظم أبطال الحكايات، يقول الرجل إن سبب التعب فى حياة بطلنا «شوية الفلسفة اللى فى دماغه!».حتى فى قصة الشيخة، وهى أقرب إلى «النوفيلا»، فإن البطلة الأسطورية البدينة العارفة تبدو أيضًا وحيدة ومنعزلة رغم سيطرتها، وحتى عندما يسرد الديب قصصًا بدون أسماء، ويقدم حالات وأجواء تجريدية، فإن «الاغتراب» يبدو قدرًا لا فكاك منه.الحب دومًا لا يكتمل، وما يُزرع لا ينبت ولا يثمر، والحياة اليومية ليست سوى أفعال حركية بلا معنى، والحوارات عبثية تستهدف الونس والثرثرة ليس إلا، ولكنها لا تحل ولا تغيّر، ولا تمنعنا من طرح أسئلة بلا إجابات.لم أستطع فصل هذه المجموعة المبكرة لكاتبٍ مثل علاء الديب عن روايات البحث والأسئلة و«الاغتراب» والقلق فى سنوات الستينيات؛ فأزمة بطل رواية القاهرة، وبحثه عن المعنى، وحالة السأم التى يعانى منها، تذكرنا بأزمة بطل السمان والخريف، وبطل رواية الطريق، والتى تصل إلى تعقيدٍ أكبر عند بطل رواية الشحاذ. وأجد أيضًا صلات واضحة بين اغتراب بطل القاهرة، وبين اغتراب بطل روايتى تلك الرائحة و1967 لصنع الله إبراهيم.لعلهم المرضى بالوعى، وبتلك المسافة الواسعة بين الحلم والواقع، وبين الثبات والتغير، أو لعلها أزمة الطبقة الوسطى المعلّقة فى فراغ المجهول، مضافًا إليها أسئلة الفلسفة الوجودية، التى ألقت بالكرة من جديد فى ملعب الفرد، بعد أن شخّصت معاناة سيزيف، وجعلت المسئولية مضاعفة.أما المدينة، أو القاهرة عند علاء الديب، فهى تتجاوز المكان إلى كونها عنصر ضغط مؤلما: حركة بلا توقف، وزحام فى مقابل شعور بالخواء. القاهرة الضخمة تضاعف محنة أبطالنا، تجعلهم ذرّات غبار فى الشوارع، ثم تتفرج على مأساتهم، عندما يمارسون جنون التحرر من الملل.
مقالات اليوم حسن المستكاوي مدرب يونايتد : «حتى البابا لن يجعلنى أغيّر أسلوبى!» عماد الدين حسين روبيو وزير خارجية إسرائيل! الأب رفيق جريش يا وزارة التعليم.. نظرة على المدارس أحمد عبد ربه الشعبوية على اليسار أيضًا! داليا شمس موسيقى الراحة الأبدية إيريني سعيد صنع القرار السياسى.. بين المخاطر والمسئوليات إيهاب الملاح «بوب فيكشن».. نوستالجيا كتب الجيب! العالم يفكر هل دخل البشر مرحلة التهجين فعلا؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك