x قد يعجبك أيضا

نجيب محفوظ بين المسكوت عنه والمؤجل الدنو منه

الخميس 18 سبتمبر 2025 - 8:10 م

كان اللقاءُ الأولُ مع نجيب محفوظ مميزًا، خاصة أنه أتى بعد اتصالات هاتفية ودّية متعددة صاحبَتها تساؤلات من كاتبنا الكبير حول متى سأحضُر إلى القاهرة وضرورة أن أزوره فى أوّل سفر مقبِلٍ إليها. وكالعادة كان اللقاء فى «فرح بوت» ذات يوم ثلاثاء من أواخر العام ١٩٨٦ على الأرجح، وبرفقة جمال الغيطانى ويوسف القعيد.

طوال الطريق من الفندق إلى العوامة كنتُ أحسّ وكأننى سألتقى صديقًا قديمًا. وفى العادة، فإن المرء حين يكون متوجّهًا إلى لقاءٍ من هذا النوع لا يستعدّ كثيرًا لما سوف يتبادلانه من حديث. وبالتّالى كنتُ أحسّ بأن من بين الأشياء التى ستُقال فى تلك الجلسة، ومن بين عشرات الأسئلة، لا شىء يتوجب تحضيره. فمع محفوظ، كما أخبرنى يوسف القعيد، دائمًا ما تمضى الأمور بتلقائية، خاصة أن أستاذنا من «المكر اللطيف» إلى درجة أنه ما إن يراك حتى يدرك كيف سيجرى الحديث. والحقيقة أن هذا ما حدث، فبعد استقبال ودى حارٍّ امتلأ بعبارات الترحيب والشكر و«التنكيت» على تصرّفات المسئولين العرب، سألنى محفوظ عن «المقاصد» — المجلة الجديدة التى أصدرتها مكان «المسيرة» — وعما إذا كنت مرتاحًا للتعامل مع «اليمين» بعدما تعاملت مع «اليسار». فضَحكت وأنا أؤكّد له أن لا أولئك كانوا يسارًا حقيقيًا ولا هؤلاء يمينًا حقيقيًا. ولقد كان ذلك التأكيد مفتتحًا لتتابع فى الحديث شاركنا فيه محفوظ والقعيد والغيطانى وعدد من الحضور الآخرين بالكاد أستطيع أن أذكرهم الآن. ثم فجأة التفت إلىّ الأستاذ، وقال لى وفى ناظريه شىء من المكر: ليقول لى إن غالى شكرى أخبره فى اتصال هاتفى أن لدىّ جملةً من أسئلة «هامة» أريد أن أطرحها عليه. وأردف محفوظ قائلًا: «هيا يا صديقى هات ما عندك!». والحقيقة أننى ارتبَكت لسبب بسيط وهو أننى كنت أودّ تأجيل طرح نصف دزينة من الأسئلة على كاتبنا الكبير إلى ما بعد لقاءاتٍ عديدةٍ أخرى معه، وفى وقتٍ يكون فيه عددنا نحن - المتحلّقين - من حوله قليلا جدًا بالنظر إلى أننى كنتُ أحسّ أنها أسئلة فيها شىء من الإحراج الفكرى.

لكنّى أدركت أن صديقنا الناقد غالى شكرى لا شكّ قد أسرّ إليه بنوعية الأسئلة، وبالتالى لا يمكننى التّراجع. وهكذا، بعد صمتٍ لم يطل كثيرًا، حدثته انطلاقًا من تمهيدٍ يتعلّق بما قدّمه لى جمال الغيطانى قبل حين من حديث شيّق عن جولتنا فى أزقّة القاهرة «المحفوظية» التى أشرتُ إليها هنا فى هذه الزاوية من «الشروق» قبل أسبوعين من الآن.

وحدثته عن بعض الأفكار التى خطرت لى متعلّقة ببعض ما يمكن تلمّسه فى أدبه من وقائع تتعلّق تحديدًا بمحرمات يصعُب على الإبداع العربى أن يَدنُو منها ببساطة. ومن ذلك أن بيت «سى السيد» يبدو وكأنّه، جغرافيًا، يقع وبكلّ دقة مكان جامع قايتباى (بحسب «الثلاثية»)، وأن الراوى الحقيقى فى رواية «قشتمر» على سبيل المثال لا يمكنه أن يكون سوى الله. والحقيقة أننى كنت فى ذلك الحين قد انتهيت من قراءة ودراسة كتاب الناقد الفرنسى - الرومانى لوسيان جولدمان «الإله المخبوء» وكنت بصدد تطبيق بعض نظريات الكتاب على أدب محفوظ وتحديدًا انطلاقًا من مناقشات طويلة كنتُ أجريها مع جارى فى الضاحية الفرنسية المفكّر جورج طرابيشى. وهنا، إذ بقى محفوظ صامتًا وهو يستمع إلىّ، صمتُ بدورى منتظرًا ردّ فعله. فابتسم قائلا: «لقد نقل إلىّ غالى شكرى على لسانك موضوعًا آخر وصفه هو نفسه بأنه أكثر خطورة. هاتِه!».

فورًا استأذنت فى متابعة الكلام، وقد شعرت أنها فرصة نادرة لى أن أستقى من الأستاذ الكبير عددًا من أفكارٍ تساعدنى على مشروعٍ كنت أعدّه وبرضاه الشخصى على الأرجح. وهكذا رُحت أحدثه عن حضور ما يُسمّى فى أدبياتنا الاجتماعية العربية «زنى المحارم» مستندًا إلى ما اعتبرته «اشتهاء» كمال فى الثلاثية لأخته عائشة، معتبرًا أن ذلك الاشتهاء الذى نطلَع عليه منذ الصفحات الأولى هو السبب الذى تُعاقَب عليه باقى ما تبقّى من حياته، كما عاقبتْ عليه عائشة دون أن يكون لها فيه أى ذنب سوى جمالها ورقتها اللذين يدمران كمال إلى أبد الآبدين. ولما لمحتُ من محفوظ صمتًا بدا لى مشجّعًا، تابعت حديثى منتقلا إلى رواية «الشحاذ» وبطلها الحمزاوى، مُجازفًا أكثر بأن «أغضب» روائيَنا الكبير بحديث قد لا يستسيغه، ولو أننى لاحظت أن صمته المتواصل والصبور يتضمّن شيئًا من الرضا. فاقترحت عليه أن مشكلةَ الحمزاوى ليست وجودية فلسفية كما يقترح كثيرٌ من النقاد، ولا أى شىء من هذا القبيل، بل هى مشكلة تتعلّق بما رصده فى نفسه من اشتهاء لابنته الصبيّة وهى تبدّل ثيابها على الشاطئ فى الإسكندرية، فلاحظ كم أنها تشبه أمّها حين تزوجت هذه الأخيرة فيما كانت من سنّها. «إن ما لاحظته يا أستاذنا»، قلت مفسّرًا أمام صاحب الرواية، «هو أن الحمزاوى فاجأ نفسه فى ذلك الموقف، فغاص فى أزمته الكبرى التى هى، بالنسبة لى، أزمة أخلاقية وأزمة ضمير أيقظته على خيانته لنفسه وللشيوعية بعدما سُجن بسببها مع رفاق له منهم واحد بقى زمنًا طويلًا فى المعتقل بالنظر إلى أنه رفض المساومة التى تمرّغ الحمزاوى فيها. فكانت النتيجة أن زوجَ الحمزاوى ابنته المشتهاة إلى ذلك المناضل الأمين لمبادئه، والذى يبدو أنه بات هنا، بشكل أو بآخر، أناه/الآخر..." وهكذا، بعد مجموعة مماثلة من المقتطفات والمواقف المستقاة من هذه الرواية كما من "السراب" ومن "الثلاثية" مرةً أخرى، صمتُ مرتبكًا بعض الشيء إذ لاحظت أن أستاذنا قد اكتفى من تلك الشروحات التى كان حماسى يزداد أكثر فأكثر كلما توغّلتُ فيها. وعلى الفور تلمَست فى نظرات محفوظ نوعًا من ارتياحٍ غريبٍ ورغبةٍ فى أن أترك له الكلام الآن. فتوقّفت عن دفق حديثى ونظرت إليه بفضول وأنا أترقّب منه ما قد يرضينى ويفتح لى الطريق أمام التعمّق فى دراسة أدب هذا الرجل الكبير والمعطاء.

ولم يطل الصمت بمحفوظ، بل ابتسم بكل طيّبة وهو يقول بعبارات اتّسمت بقدر كبير من الحياد: "أصارحك يا عزيزى أنها ليست المرّة الأولى التى أسمع فيها مثل هذا التحليل لمواقف وأمور لستُ أدرى ما إذا كانت قد خطَرَت فى بالى وأنا أكتب هذه الروايات التى تتحدث عنها وأضمنها، كما تقول أنت، هذه الأفكار التى حتى وإن كانت غير بعيدة عن تفسيرى لما تعيشه هذه الشخصيات، لا يمكننى أن أؤكد أو أنفى انخراطها فيها بشكل حَدّد لها مصائرها كما تقول. ففى النهاية أنت تعرف أن الكاتب يكتب تاركًا لقرّائه أن يفهموا على هواهم، ولِنقّاده وغيرهم من الباحثين أن يُحلّلوا ويستنتجوا. ومن هنا، وإذ أرجو منك أن تستنتج من صمتى موافقةً منى على ما تذهب إليه، أو رفضًا له، دون أن يتحوّل الرفض إلى استنكار، سأقول لك أمرين: أولاهما أنك لست أول من فاتحنى بمثل هذه التفسيرات لمواقف وأفكار ربما كانت قد خطَرت فى بالى، لكن الغريب أن كل الذين فاتحونى بها، وهم قلة على أية حال، يعيشون فى الخارج وهم من الأجانب. وأنت من قِلّة العرب فاتحتنى بالأمر. أما بالنسبة إلى الأمر الثانى فهو أننى أسمح لنفسى بأن أرجوك، كما رجوت الذين أتوا من الغرب وفاتحونى بالتفسيرات نفسها، ألا ينشر مثل هذا الكلام قبل أن أودّع هذا العالم، وألا يُنشر للوضع فى تصرّف القرّاء والباحثين العرب فى الزمن المنظور على الأقل.

أما بعد هذا فأنت حرّ فى أن تفكّر كما تشاء وتكتب كما تشاء، علمًا بأننى، من منظور ما، قد استمتعت شخصيّا بما قلته حول رواياتى، إن لم يكن ككاتب لهذه الروايات، فعلى الأقل كقارئ لها يمتعه دائمًا أن يساعده الآخرون على اكتشافها وإعادة اكتشافها من جديد». ولعل ما يَجدر بى أن أضيفه هنا أن أستاذنا الكبير، الذى راح ترحيبه بى يزداد حفاوةً زيارةً بعد زيارة، لم يَعُد أبدًا إلى هذا الموضوع بعد ذلك ولم يسألنى حتى عما وصل إليه مشروعى.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة