للزعيم الدرزي العروبي الراحل كمال جنبلاط مقولة مأثورة ألحّت عليّ مرارًا خلال عامين من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة: "لم نعد وحدنا في العالم إنما المطلوب هو الصمود". كان يقصد الشعوب المستضعفة التي حاولت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين تحدي القوى الاستعمارية، قديمها وحديثها، في صورة منظمات حكومية وأخرى غير رسمية لتنسيق الجهود ضد التوحّش المجنون.
للعبارة اليوم صدىً في كل حراك جماهيري أو حكومي على بعد آلاف الأميال من غزة، تعبيرًا عن التضامن والغضب على خلفية التعاطف الإنساني أولًا ثم بتراكم الوعي العام بطبيعة القضية الفلسطينية.
رأينا إسبانيا تغلق موانيها ومطاراتها أمام شاحنات السلاح الإسرائيلية وتلغي عقود تسليح وتدفع لمقاطعة أوروبية واسعة لها وتستدعي سفيرتها من تل أبيب. والنرويج، التي احتضنت اتفاقيات أوسلو لحل الدولتين، تتبرع بعائدات مباراتها مع دولة الاحتلال لدعم غزة وتراجع بإجراءات متصاعدة استثماراتها في الشركات الدولية الداعمة للمستوطنات. وهولندا تنضم إلى الدول المطالبة بمنع إسرائيل من المشاركة في مسابقة "يوروفيجن" وينعكس الجدل الأخلاقي حول "الإبادة" على سياساتها الداخلية وتشكيل الحكومة، بل وترتدي رئيسة حزب "من أجل الحيوان" ألوان علم فلسطين في البرلمان.
لم نعد وحدنا في العالم.. والنجم الهوليوودي خابيير بارديم يعلن مقاطعته شركات الإنتاج السينمائي المتعاونة مع الاحتلال، والممثلة اليهودية هانا أينبندر تهتف "فلسطين حرة" في حفل الإيمي، وفيلم "صوت هند رجب" يفوز بالأسد الفضي في مهرجان فينيسا السينمائي مصحوبًا بتقدير ودعم هائلين من نجوم الصناعة مجددين مطالبتهم بوقف إطلاق النار وإنقاذ الطفل التالي في غزة.
لم نعد وحدنا و140 دولة منها الغالبية الكاسحة من دول أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، تصوّت لصالح قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ووقف العدوان ونحن مقبلون على اجتماع حساس للجمعية العامة للأمم المتحدة، بما في ذلك دول بررت ممارسات الاحتلال ودعمتها طويلًا مثل ألمانيا والنمسا وفنلندا، ودول أخرى معروفة بالتبعية المطلقة لواشنطن مثل جزر مارشال!
ولم نعد وحدنا ونحن نرى الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو يلوّح بالتخلي عن جنسيته الإيطالية احتجاجًا على ضعف المواقف الأوروبية تجاه الإجرام الصهيوني، بينما تحاول بلاده تحريك المياه الراكدة بفرض عقوبات مباشرة على إسرائيل رفقة دول مجموعة لاهاي الناشطة في الملاحقة القانونية للاحتلال.
هذا الواقع يقلق بشدة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فلمسنا في حواراته وخطاباته الأخيرة هجومًا على وسائل الإعلام الدولية والحكومات الأوروبية والدوائر الأكاديمية واتهمها بالوقوع تحت تأثير "لوبي عربي وإسلامي وأموال قطرية" في محاولة متجددة لوضع الكيان في خانة الطرف المستضعف المهدد في محيطه الجغرافي. لعبةٌ دعائية يجيد التنقل فيها بين الدفاع والهجوم.
كانت مفارقة أن أصدر المفكر الفرنسي برتران بادي منذ عشر سنوات كتابًا حمل عبارة كمال جنبلاط "لم نعد وحدنا في العالم" لكن ضمير المتكلم هنا يعود على الغرب. سلّط الضوء على الوجه الآخر من حالة تداعي النظام الدولي أحادي القطب، محذّرًا من انفجار إذا استمرت القوى الكبرى في فرض رؤيتها كقالب وحيد للعالم، واختص الشرق الأوسط بوصف "منطقة بركان" نتيجة تبعات "استعمار فاشل عاد للتشدد لصالح إسرائيل على حساب أصحاب الأرض المسلوبة".
واعتبر في مقدمة الطبعة العربية الصادرة من مؤسسة الفكر العربي عام 2016 أن الشعب الفلسطيني هو "الضحية الأولى للهيمنة والغطرسة وغريزة التفوق المخزية" وعلى الرغم من ذلك فإنه -من خلال النضال والصمود- يذكّر دائمًا بما تمثله العدالة من تحدٍ أخلاقي وضرورة التغيير الجذري في بنية المنظومة الدولية.
والتغيير لن يتحقق إلّا بتحرك جماعي يُحرر الدول الضعيفة من قيود ذهنية واقتصادية ودبلوماسية تحوّلها إلى مجرد أدوات أو مناطق نفوذ، لتصبح "أطرافًا شريكة متساوية" –بحسب بادي- في القوة والتأثير مع القوى الاستعمارية القديمة، حتى تُعاد صياغة مفاهيم السيادة والعدالة والقانون الدولي والتعددية الثقافية.
بعد عامين شهدا العديد من القمم والاجتماعات وآلاف البيانات والتقارير والإدانات؛ يبدو أن الحلقة الأضعف في التحرك الجماعي المنشود هي الدول العربية والإسلامية مجتمعة، المستهدفة بمخططات "الردع والجدار الحديدي" بغية تحويلها إلى دول منغلقة أو تابعة في فلك الكيان الصهيوني، أو دويلاتٍ دُمى، منزوعة السلاح ومعدومة المواقف لا تملك صدًا ولا ردًا للعربدة والتجبّر المدعوم أمريكيًا.
صحيح.. لم نعد وحدنا في العالم، لكننا وحدنا القادرون -بحسابات الإمكانات البشرية والمادية والإرث الجغرافي والتاريخي وحساسية القضية- على مد الجسور بين الدول الغربية التي تحاول حكوماتها الخروج من العباءة الأمريكية، وبين دول الجنوب العالمي الساعية لكسر هيمنة واشنطن والتحرر من تعقيدات المصالح الصينية والروسية، وتجد في القضية الفلسطينية ساحةً واعدةً لمقاومة الاستعمار في صورته الأكثر بشاعة على مدار التاريخ.