عودة إلى الجذور
الخميس 18 سبتمبر 2025 - 8:15 م
نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب رضا السميحيين، تناول فيه أن صعود الشعر الشعبى (العامى) على منصات التواصل الاجتماعى، وتحوله إلى وسيلة تعبير يومية عابرة للحدود، يعكس حاجة المجتمع العربى للتوازن بين الحداثة وحفظ الهوية التراثية، ويُظهر قدرة هذا الفن على التكيّف مع التكنولوجيا الحديثة وتجديد نفسه مع المحافظة على جذوره الأصيلة.. نعرض من المقال ما يلى:
لا شىء يثير الانتباه فى مشهدنا الثقافى العربى اليوم، مثل الحضور والتألق للشعر الشعبى والنبطى على منصات التواصل الاجتماعى، وفيما يبدو أن هذا النوع من الفنون تقولب بمرونة مدهشة مع أدوات التكنولوجيا الحديثة، متحولاً إلى لغة تعبيرية يومية تتنقل بين الهواتف، لتعبر عن الشعور الآنى بمفردات عذبة قريبة من النفس.
المتابع لهذه الظاهرة يلحظ أن الشعر الشعبى أو النبطى وجد فى المساحة الرقمية الحديثة، بيئة طبيعية تتناسب معه، فطبيعته الشفهية وسرعة إيقاعه تتوافق مع سرعة هذه المنصات، التى تقوم على المشاهد القصيرة والمحتوى الخفيف، ولا غرابة أن تصوير مقطع لا يتجاوز ثلاثين ثانية يكفى ليصنع نجومية لشاعر ما من أول قصيدة، ويفتح له بابًا إلى ملايين المتابعين مع شهرة إعلامية لا تخلو من عوائد مالية مجزية، والأمثلة هنا كثيرة لا تخفى على المتابع الجيد، فقد ظهرت مقاطع لقصائد صورت بعفوية فى جلسة أصدقاء أو رحلة برية حقق معها أصحابها نجومية بلمح البصر، وهذه الفورية فى النجومية لم تكن متاحة من قبل للشعراء الشعبيين، إذ كانت القصيدة تنتظر أن تصل إلى المجلس، ثم إلى الإذاعة أو المجلة، وبين كل قصيدة وقصيدة تنشر قد تمر سنوات، أما الآن فالمعادلة اختلفت، وبإمكان القصيدة أن تحلق وتصل إلى الناس فى اللحظة نفسها التى تقال فيها.
إذا ما نظرنا للأمر من زاوية ثقافية، يمكن القول إن صعود الشعر الشعبى فى هذه المرحلة يعكس حاجة المجتمع العربى والخليجى إلى صيغة توازن بين تسارع الحداثة وحفظ الهوية التراثية، والشعر الشعبى أو النبطى يقدم هذه الصيغة ببساطة وعمق دون تكلف، فهو يتحدث بلسان الناس، ويلتقط مشاعرهم اليومية، لكنه يربطها بجذور ممتدة فى الذاكرة والوجدان، من هنا نفهم سبب حضور قصائد الفخر والحنين والمواقف الاجتماعية بقوة على المنصات الاجتماعية، إذ تمنح المتابع إحساسا بالانتماء وتذكره بخيوط الاتصال مع الماضى.
ولا يمكن إغفال دور «الشخصية» فى هذه الظاهرة، فالشاعر اليوم وجه حى يراه المتابع، ويتفاعل الناس من مختلف الشرائح مع حضوره المباشر، ويترقبون ظهوره كما يترقب أى مؤثر رقمى آخر، وهكذا تحول الشاعر الشعبى إلى ما يشبه «النجم»، لكن نجوميته تتأسس على الكلمة الطيبة، وعلى الإحساس الجماعى بالأصالة، ولعل هذا الأمر عائد إلى أن أغلب الشعر النبطى والشعبى يتكئ على مبادئ وقيم اجتماعية فضيلة، إذ قلما تجد قصيدة نبطية تخلو من حكمة أو نصح أو دعوة إلى خلق كريم.
من زاوية أخرى، هذا الانتشار والقبول يقدم فرصة جيدة لتجديد الشعر الشعبى ذاته، فالمنصة الرقمية تضغط الآن على الشاعر ليكون مكثفًا ومباشرًا مع المقدرة على خطف انتباه الجمهور، وهذا ما يدفع العديد من الشعراء إلى تطوير تقنيات الإلقاء، والبحث عن صور شعرية جديدة، وصياغة أبيات أكثر تماسكًا تلبى متطلبات ذائقة الجمهور المترقب، صحيح أن هذه الدينامية قد تنتج أيضا قصائد متسرعة، لكنها فى النهاية دليل على حيوية ومرونة هذا الفن فى التكيف مع شروط الحداثة.
هناك أيضا أمر لافت فى هذا الحضور المتصاعد للشعر الشعبى والنبطى على مستوى جغرافيا الانتشار، إذ لا يقتصر حضوره على منطقة دون أخرى، بل باتت القصيدة الشعبية تتجاوز الحدود، تتشاركها جماهير من الخليج إلى المشرق والمغرب، مع تفاوت فى عمق التأثير بين شمال الجزيرة العربية والعراق ونظيرتها فى دول شمال إفريقيا، لنجد أنفسنا فعليًا نقف أمام لحظة شعرية قد تعتبر هجينة، ولكنها لحظة تتلاقى فيها اللهجات وتتبادل التأثير، وتنصهر فى بوتقة ثقافية عربية ذات جذور مشتركة لغويًا وفكريًا، فى مشهد تفاعلى ربما لم يكن ممكنًا قبل عقد واحد فقط.
لابد من القول إن هذه الظاهرة تخبرنا أن الناس يبحثون عما يعبر عنهم، وإن القصيدة الشعبية رغم بساطتها قادرة على أن تكون هذا الصوت المعبر، وربما تكمن أهميتها اليوم فى أنها تمنحنا لحظة صافية من الانتماء والتأمل والعودة للجذور.
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا