حظيت قمة منظمة شنجهاى للتعاون، التى عقدت فى مدينة تيانجين الساحلية الصينية يومى 31 أغسطس و1 سبتمبر 2025، باهتمام سياسى وإعلامى غير مسبوق مقارنة بالأربع والعشرين قمة السابقة للمنظمة. ومن مصادر هذا الاهتمام الظروف الدولية التى عقدت خلالها القمة من حروب عسكرية واقتصادية ونزاعات سياسية وتحديات علنية بين القوى العالمية الكبرى، خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة ترامب، وجمع القمة لنحو 26 دولة و10 منظمات إقليمية ودولية فى مقدمتها الأمم المتحدة، والمهم بروز قيادة الصين بوضوح معلن سواء على مستوى قيادتها للمنظمة أو على مستوى إظهار الدور الصينى الحالى والقادم على الساحة الدولية قوة صاعدة بفاعلية.
وقد كان الرئيس الصينى واضحًا فى كلمته فى افتتاح مؤتمر القمة بأن منظمة شنجهاى للتعاون تمثل نموذجًا لعلاقات دولية جديدة للدفاع عن التعددية القطبية المتوازنة، والعولمة الاقتصادية الشاملة، وتعزيز نظام حوكمة عالمى أكثر عدلًا وإنصافًا، موضحًا أن ظلال عقلية الحرب الباردة والتنمر لم تنتهِ مع تزايد التحديات الجديدة، وأن العالم دخل مرحلة جديدة من الاضطرابات، وأن الحوكمة العالمية عند مفترق طرق، وضرورة بذل جهود مشتركة لبناء إطار حوكمة دولية أكثر توازنًا وعدلًا. كما اتضح من وقائع القمة أنها كانت بمثابة حشد للتضامن من دول الجنوب العالمى فى مواجهة الهيمنة الأمريكية والغربية، وأن تضطلع منظمة شنجهاى للتعاون بدور أكبر فى حماية السلام والاستقرار الإقليمى والدولى، وتقديم الصين نفسها على أنها قوة عالمية مستقرة ستقف إلى جانب العالم النامى، وحث الدول الأعضاء على استثمار إمكانيات أسواقهم الضخمة، والطموح لتأسيس نظام أمنى واقتصادى عالمى جديد يمثل تحديًا مباشرًا للولايات المتحدة الأمريكية.
• • •
يلاحظ أنه، مع تنوع مستوى حضور الدول هذه القمة ما بين الأعضاء الأساسيين العشرة وهم الصين، وروسيا، وكازاخستان، والجمهورية القيرغيزية، وطاجيكستان، وأوزباكستان، والهند، وباكستان، وإيران، وبيلاروسيا، ودولتان مراقبتان هما منغوليا وأفغانستان، و14 دولة شريكة حوار من بينهم مصر، وتركيا عضو الناتو، والسعودية، وقطر، والبحرين، والإمارات العربية، وغيرهم، وما بين هذه الدول من خلافات، إلا أنهم جميعًا توافقوا على التوجه الصينى القوى نحو العمل على إحداث تغيير ملموس فى تركيبة التوازنات الحالية فى العلاقات الدولية وإفساح المجال أمام دول الجنوب العالمى لأن تكون العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية والسياسية والأمنية أكثر عدالة وإنصافًا لحقوق هذه الدول فى السيادة واستثمار مواردها الطبيعية والبشرية.
تعد منظمة شنجهاى للتعاون بوضعها الحالى أكبر منظمة من حيث عدد السكان: نحو 42,8% من إجمالى سكان العالم، ومن حيث المساحة الإجمالية لدولها نحو 27% من إجمالى مساحة الأراضى اليابسة فى العالم، وتنتج دول المنظمة حوالى 23,6% من الناتج المحلى الإجمالى العالمي. وقد أدت الحرب الأوكرانية والعقوبات المفروضة على روسيا إلى زيادة كبيرة فى التبادل التجارى بين روسيا وكل من الصين والهند، نتيجة زيادة استيرادهما البترول والغاز من روسيا.
إن أهم أهداف منظمة شنجهاى للتعاون تعزيز الثقة المتبادلة وعلاقات حسن الجوار بين الدول الأعضاء، وتطوير التعاون الفعال فى مجالات السياسة، والاقتصاد، والعلوم، والتكنولوجيا، والثقافة، والتعليم، والطاقة، والنقل، والسياحة، وحماية البيئة، وغيرها من القطاعات الحيوية. وبذل الجهود المشتركة للحفاظ على السلام والأمن والاستقرار فى المنطقة. والعمل نحو إقامة نظام سياسى واقتصادى دولى جديد يقوم على أسس الديمقراطية والعدالة والعقلانية.
• • •
أسفرت القمة عن عدة نتائج تضمنها البيان الصادر عقب إنهائها، ولعل أهم هذه النتائج الاتفاق على خطة عشرية لتطوير المنظمة خلال السنوات العشر القادمة من أجل ترسيخ التعاون والمنفعة المتبادلة وبناء عالم متعدد الأقطاب، وإعلان موقف داعم للنظام التجارى متعدد الأطراف بقيادة منظمة التجارة العالمية، والدعوة لإنهاء الإجراءات الأحادية التى تنتهك قواعد التجارة الدولية، واتخاذ قرار سياسى بإنشاء بنك تنمية تابع للمنظمة لتعزيز البنية التحتية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية فى المنطقة الأوراسية، وإقامة عدة منصات للتعاون تابعة للمنظمة فى مجالات الطاقة، والصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمى، ومراكز الابتكار العلمى، والتعاون الاقتصادى والتجارى. وتهدف الصين، ومعها الأغلبية من أعضاء منظمة شنجهاى للتعاون، إلى تنمية وتدعيم دور المنظمة والبنك الجديد التابع لها وإلى التخفيف قدر الإمكان من سطوة كل من البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، وخضوعهما بدرجة كبيرة للسيطرة الأمريكية الغربية واستخدامهما فى عدة مرات لخدمة أغراض سياسية بعيدة عن المعايير المالية والاقتصادية للتنمية التى تحتاج إليها دول الجنوب العالمى، خاصة الدول النامية، أشد الاحتياج.
وشهدت منظمة شنجهاى للتعاون نموًا وتطورًا كبيرًا منذ أن كانت مجموعة شنجهاى الخمسة فى تسعينيات القرن العشرين عقب تفكك الاتحاد السوفيتى إلى الآن، وهذا يرجع إلى حد كبير لدور الصين الدافع بقوة لأن تكون هذه المنظمة فى الحاضر والمستقبل قوة فاعلة فى جميع المجالات مع التصاعد الكبير لدور ومكانة الصين على الساحة الدولية، وذلك مقابل تراجع الدور الأمريكى بدرجات ملحوظة. وتتبنى المنظمة مواجهة الهيمنة الأمريكية، والدفاع عن التعددية القطبية المتوازنة، والعولمة الاقتصادية الشاملة، وهو مفهوم يتفق مع رؤية القوى الثلاثة الرئيسية فى المنظمة وهى الصين الهند وروسيا، دون تركيز على العولمة الثقافية والفكرية كما كان مفهوم العولمة الأمريكية وما ظهر فيها من بعض السلبيات. هذا إلى جانب تعزيز نظام حوكمة عالمى أكثر شرعية وعدلًا وإنصافًا. وتسعى المنظمة إلى تحقيق هذه الأهداف عن طريق بناء نظام مالى جديد مستقل من خلال بنك المنظمة الجديد.
• • •
وقد تواكب مع قمة منظمة شنجهاى للتعاون وأعقبها وقائع مهمة للغاية، منها القمة الثنائية بين الرئيس الصينى ورئيس وزراء الهند، الذى لم يزر الصين منذ سبع سنوات وحظى باستقبال حافل برغبة من كلا الطرفين فى إزالة الجفوة بينهما بسبب الخلافات على الحدود بين الدولتين من ناحية، والمنافسة التجارية وصعود الهند الملحوظ على الساحتين الإقليمية والدولية من ناحية أخرى. لذا فقد أكد الزعيمان «أن بلديهما شريكان فى التنمية وليسا خصمين» والتأكيد على التهدئة على الحدود، وفتح مسار للتبادل التجارى والاستثمار. وإن توقيت هذا التقارب الصينى الهندى بمثابة رد على فرض الرئيس الأمريكى ترامب جمارك على السلع الهندية بنسبة 50%، والذى اعتبرته الهند تغيرًا فى مسار العلاقات الهندية الأمريكية بعد أن كانت تعتبر واشنطن حليفًا استراتيجيًا وشريكًا فى مواجهة النفوذ الصينى وفى الحفاظ على أمن منطقتى المحيطين الهندى والهادى. ووراء قرار ترامب بفرض هذه الجمارك على المنتجات الهندية، استيراد الهند البترول والغاز الروسى وإعادة بيعه لأطراف ثالثة بالمخالفة للعقوبات الأمريكية الغربية المفروضة على الصادرات الروسية من الطاقة. وترى أجهزة الإعلام وبعض الأساتذة الأمريكيين أن الرئيس ترامب بدد ما استثمره أسلافه من رؤساء فى بناء علاقات مع الهند على مدى العقود الثلاثة الماضية تتسم بالصداقة، مما دفع الهند إلى الاتجاه نحو الصين وروسيا.
وقد حرصت الصين على أن يتواكب موعد انعقاد قمة شنجهاى للتعاون مع احتفالات الصين بمرور 80 عامًا على انتصارها فى الحرب العالمية الثانية وتحررها من الاحتلال اليابانى، لإتاحة الفرصة لحضور قادة الدول ورؤساء الوفود المشاركة فى القمة هذه الاحتفالات، وخاصة مشاهدة العرض العسكرى المبهر؛ حيث استعرضت الصين أحدث ما توصلت إليه ترسانتها لصناعة أحدث الأسلحة التى شهد عدد من الخبراء العسكريين الحضور بأن بعض هذه الأسلحة تعادل نظيراتها الأمريكية، بل إن بعضها أكثر تقدمًا عن الأسلحة الأمريكية. وواضح أن هدف الصين هو إظهار أنها دولة قوية اقتصاديًا وعسكريًا قادرة على مواجهة أى تحديات تهدد مصالحها الحيوية، خاصة فى مجال نفوذها فى الدائرة الجغرافية المحيطة بها فى البر والبحر.
كما عقد على هامش القمة اجتماع ثلاثى لرؤساء الصين وروسيا وكوريا الشمالية، لتأكيد التحالف مع كوريا الشمالية والتعاون معها فى كل التحديات التى تواجهها، باعتبار أن بصمات الحرب العالمية الثانية وآثار الحرب الباردة وتداعيات سياسات الرئيس ترامب الحالية تخيم على شبه الجزيرة الكورية بشقيها الشمالى والجنوبى، ووجود قاعدة عسكرية أمريكية كبيرة فى كوريا الجنوبية تضم أحدث الأسلحة ونحو 27 ألف جندى وضابط أمريكى. كما أن كوريا الشمالية تساهم بمساعدات عسكرية مباشرة لروسيا فى حربها على أوكرانيا وداعميها الغربيين.
جاء رد الفعل الأمريكى مشوبًا بالغضب والقلق، حيث اتهم ترامب قادة الصين وروسيا وكوريا الشمالية بالتآمر على الولايات المتحدة الأمريكية. ووصف العلاقات التجارية الأمريكية الهندية بأنها كارثة أحادية الجانب. واتهم أحد مساعدى ترامب الهند بأنها فى خدمة روسيا، وأبدى دهشته من أن رئيس وزراء الهند، وبلده أكبر ديمقراطية فى العالم، يقيم علاقات مع كل من بوتين ورئيس الصين. بينما وصف وزير الخارجية الأمريكى قيادات الصين والهند بأنهما «قيادات فاعلة فاسدة»، ووصف القمة الصينية الهندية بأنها «احتفالية ولمجرد التقاط الصور دون مضمون»، وقلل من أن تكون الرسوم الجمركية الأمريكية هى التى أدت إلى التقارب بين الهند والصين.
لعل أهم رسائل القمة والفعاليات على هامشها، أنه رغم ما قد يوجد من بعض الخلافات بين بعض الدول أعضاء منظمة شنجهاى للتعاون، فلن تحول دون توافقهم مع الصين على مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية بالسعى الدءوب لتفعيل البدائل فى جميع المجالات. وأن الصين تتقدم الصفوف بروح التعاون بما لديها من إمكانيات اقتصادية وعسكرية لقيادة دول الجنوب العالمى، خاصة الدول النامية، فى مواجهة الهيمنة الأمريكية ومن أجل إقامة توازنات دولية تعددية جديدة.