«ربي يرجعهم بالسلامة»

الأحد 14 سبتمبر 2025 - 6:50 م

اسمعى، اسمعى، سأشاركك فى رسالتها الصوتية؛ هكذا قالت لى، وصوتها المرتجف برهبة اللحظة يصف المشهد، وهى عائدة للتو من يوم حافل بالمشاعر الإنسانية فى سيدى بوسعيد، عروس المدن التونسية. قالت: «لن تتخيلوا كم البشر الموجودين فى الميناء، لا مكان لحجر بين حجر، بل الأجساد تراصت على مدى البصر»، هكذا جاء صوتها المعتق بالفرح النادر.
• • •
قبل رحيلها، وفى استعداداتها لهذه الرحلة الإنسانية، كانت تشاركنا تفاصيل حقيبتها: ماذا تستطيع أن تحمل، وكيف عليها ألا تأخذ الكثير، لا مكان للرفاهية الخاصة إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه، والباقى كله طعام ودواء لأطفال ونساء ورجال غزة الصامدين المحاصرين.
• • •
كانت رسالتها مليئة بتفاصيل عن المراكب فى ذلك الميناء، والبشر، كل البشر، بألوان وأديان وأجناس مختلفة، وعن قصص ومدن قدموا منها، وعن وداعات كانت لهم فى موانئ كثيرة، وعن موج وبحر غضب أحيانًا ليس منهم، ولكن ربما لما تسجله موجاته كل لحظة من موت وقتل، ورمال طرزت بالدم والوجع هناك عند شواطئ غزة.
• • •
واستمرت هى وكأنها تتحدث بصوت واحد، دون همزة أو فاصلة: «الأجواء لا مثيل لها»، تردد، «لا أعرف كيف أصف لكم ما يحدث». فأصوات الهتافات، والأناشيد، والغناء، والمؤتمرات الصحفية لمن حضر من الإعلام، فيما كثير من المحطات العربية والأجنبية لم ترصد المشهد التاريخى، ولم تكترث له، بل استمرت فى نشرات وضع البورصة والبتكوين، وحفلات هنا وهناك وغيرها!
• • •
هل تخيل سيدى بوسعيد الباجى (القرن 12 م) أن تلك المدينة، التى سكنها وأسسها يومًا، ستكون أيضًا حاضنة والحصن الأخير للبشرية فى طقس جماعى، اجتماعى، ثقافى، وإنسانى نادر، ومشهد الأنظار وهى معلقة فى الأفق الأزرق لتلك الأمواج التى سكنت خشوعًا فى انتظار استقبالهم وهم يغادرون نحو غزة؟
• • •
ترحل القوارب عند ساعة الرحيل، ويتحلق الجميع عند الرصيف، فالكثيرون جاءوا من مدن بعيدة أيضًا للحظة الوداع، صارخين: «ربى يرجعكم بالسلامة»، ويضيف أحدهم هامسًا: «منصورين بعد أن تكسروا الحصار على غزة».
• • •
تأتى الرسائل تباعًا، كلهم وقفوا أمام هواتفهم، لا ليصوروا مشهدًا طبيعيًا، أو موقعًا جميلاً، أو فندقًا، أو مطعمًا، بل ليخبروا العالم بأنهم هنا، عند حافة الموجة، يستعدون للرحيل محملين بما استطاعوا حمله، لأن فلسطين وشعبها يتعرضان للإبادة أمام أنظار العالم، ولأنهم رضعوا حب فلسطين والحرية والحق معًا.
• • •
ليست بطولة، يقول ذاك القادم من عمان، وتردد البحرينية بأنها رضعت حب فلسطين وأرضها وشعبها. وتقف الشابة القطرية لتقول: «نحن هنا من أجل الحق والعدالة، ودفاعًا عنها». صور وأصوات كلها من موريتانيا، مرورًا بالمغرب والجزائر وليبيا والكويت وتونس، التى لم يكتف أهلها بأن يحتضنوا القادمين، بل وقفوا معهم وفتحوا قلوبهم قبل بيوتهم، تقاسموا الرغيف المغمس فى الهريسة مع حبة زيتون، وكانوا هناك بأعداد هائلة فى وداعهم. قالت إحداهن: «سنكون هنا، فلا تتأخروا، وعودوا سالمين غانمين».
• • •
كلهم، الواقفون هناك، المودعون، حملوا رسائل إلى محمد وهند وشيماء ولمى وكوثر وخالد وأشرف ووائل.. ولكل أطفال وأهل غزة: «قولوا لهم إن العالم لم ينساهم، وليغفروا لنا»، هكذا قالت تلك الماسحة دمعها وهى تنثر الملح والياسمين على المغادرين.
• • •
ومع ابتعاد الفلوتيلا فى عرض البحر، تتبدد الأصوات شيئًا فشيئًا، ليحل محلها همس الرياح وأصداء أقدام المغادرين على الأرصفة. تتجه الأنظار نحو الأفق، حيث تذوب القوارب فى زرقة الماء، وتتحول إلى نقاط بعيدة، كأنها أحلام معلقة بين السماء والبحر. قد تسكن سيدى بوسعيد بعض الشىء لبعض الوقت، ولكن تبقى أنظار أحرار العالم على الفلوتيلا، داعية: «ربى يحميهم»، من الأقرباء قبل الأعداء، ربما!!!

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة