البحث عن منظومة طعام بديلة في جزيرة الدهب

الأحد 14 سبتمبر 2025 - 6:50 م

أحد الأماكن القليلة التى يتغلب فيها اللون الأخضر على ما عداه فى القاهرة هى جزيرة الدهب فى وسط نيل القاهرة، وهى جزيرة مساحتها أكبر من ثلاثمائة فدان تكتسى أغلبها بدرجات متفاوتة من اللون الأخضر تبعًا لما هو مزروع فيها فى ذلك الوقت، سواء كان الكثير من البرسيم الحجازى أو البصل أو الباذنجان أو بعض القمح ومحاصيل أخرى. ويسكنها عدد لم نستطع التيقن منه تمامًا، ولكنه يزيد على العشرة آلاف نسمة.
فى إطار بحثنا عن أماكن يمكن للتحول المتجدد فى مدينة مثل القاهرة أن ينطلق منها، وضعت سؤالًا لنفسى ولطلبتى فى الربيع الماضى: هل يمكن أن تكون جزيرة الدهب مكانًا نرى فيه بدايات حقيقية لعالم أفضل ليس فقط فى القاهرة ولكن على امتداد نهر النيل من صعيد مصر وحتى دلتاها؟ وهو وإن كان سؤالًا يبدو طموحًا بدرجة كبيرة، لكننى أيضًا أعتقد أنه واقعى بدرجة معقولة، ببساطة لأن خياراتنا المستقبلية، خاصة فى مواجهة تحديات التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى، لا تبدو فقط محدودة، ولكن يبدو أيضًا أن الكثيرين لا يأخذون هذه التحديات على محمل الجد بصورة كافية.
ولأن منتجات الجزيرة زراعية أساسًا وتمثل أحد المكونات الرئيسية لمنظومة الطعام، كانت تلك المنظومة مدخلًا رئيسيًا للتعامل معها. وتتكون منظومة الطعام، سواء كان الطعام نباتيًا أو حيوانيًا، من منظومة فرعية للإنتاج مثل الزراعة أو تربية الحيوانات أو صيد الأسماك وخلافه. ويرتبط بالإنتاج منظومة فرعية للتجهيز والإعداد، وأيضًا منظومة فرعية أخرى للنقل والتوزيع، ثم يأتى الاستهلاك سواء فى البيوت أو غيرها، ثم أخيرًا التخلص من النفايات. ومن غير الممكن فصل التعامل مع الطعام كشىء يُؤكل من دون وضعه فى سياق تلك المنظومة. ليس هذا فقط، بل إن منظومة الطعام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمنظومة الماء وأيضًا منظومة الطاقة. فكر مثلًا كيف أن الكيلوجرام من اللحم الأحمر يحتاج ما يقرب من خمسة عشر ضعف الماء الذى يحتاجه كيلوجرام من القمح. وهذا ما يسمى بالماء الافتراضى، والذى فى جوهره ببساطة أن الغذاء، قبل أن يكون وقودًا لأجسامنا، فهو ماء، لولاه ما وصل إلينا وما أكلناه. ولأن الطعام هدفه الرئيسى إمداد أجسامنا بالطاقة التى نحتاجها لنقوم بالأنشطة المختلفة، أو على الأقل هذا ما يقوم به نصف الطعام الذى نتناوله، بينما يقوم الباقى بدعم الأنشطة والوظائف التى يقوم بها الجسم. لكن لك مثلًا أن تتخيل أن محتوى علبة معدنية من المياه الغازية يمكن أن يمد جسم الإنسان بحوالى مائتين وعشرين سعرًا حراريًا، بينما كمية الطاقة التى استُخدمت فى تصنيع العبوة المعدنية تقارب ما يكافئ ألفى سعر حرارى.
• • •
يكتب بول روبرتس عن التحول الكبير الذى حدث بصفة خاصة فى بدايات القرن العشرين عندما تحول الطعام من غذاء إلى سلعة يمكن أن تدر الكثير من الأرباح من خلال تداوله عن طريق الأسواق، سواء المحلية أو الأفضل الدولية، والتى من خلالها يمكن حصد الأرباح الطائلة. أثر ذلك ليس فقط على تصنيع الإنتاج الزراعى، ولكنه أيضًا على طرق التداول وإغراء المواطنين لزيادة استهلاكهم حتى يتمكن المنتجون من زيادة أرباحهم، ولا يهم هنا إن كان ذلك على حساب تدمير البيئة الطبيعية بما تسببه المبيدات الكيماوية والإفراط فى استخدام الأسمدة الكيماوية. وكان للوقود الأحفورى دور رئيسى ليس فقط فى جعل نقل السلع والبضائع من مسافات بعيدة أرخص كثيرًا، ولكن أيضًا من خلال صناعة الأسمدة والكيماويات وتشغيل الآلات الميكانيكية للحرث والزرع والحصاد. كما مكَّن الوقود الأحفورى من جعل صناعة الأغذية المعالجة، سواء جزئيًا أو بكثافة، ممكنة، كما مكَّنت ابتكارات التغليف المتعددة من ضمان نقل الطعام لمسافات أطول، وفى الوقت نفسه أنتجت مخلفات قد لا يمكن التخلص منها فى المدى القريب مثل البلاستيك.
ولأن تلك المنظومة السائدة حاليًا، والتى تنتج الغذاء بشكل صناعى عن طريق فصل المكونات وتقديم الكفاءة والإنتاجية وتجاهل الآثار البيئية (خاصة إنهاك التربة وزيادة الملوثات وغازات الاحتباس الحرارى)، والآثار المحتملة على صحة الإنسان واعتمادها بشكل متزايد على العمالة الرخيصة، لا يتم فيها حساب ما يسمى التكلفة الحقيقية للطعام، وهى تلك التكلفة التى يجب أن تشمل التأثيرات البيئية السلبية التى تتسبب فيها. فمن الضرورى أن تتحول بأسرع وقت إلى ما يمكن أن يكون مستدامًا أو متجددًا.
• • •
فى مواجهة تلك المنظومة، بدأت العديد من المنظومات البديلة فى الظهور، كما كتب رونالد ساندلر فى كتابه «أخلاقيات الطعام» منذ عدة عقود: أولها ما يُطلق عليه «الطعام العضوى»، وثانيها «الطعام البطىء»، وثالثها «الطعام المحلى». ولأن النقاش بين العديد من الباحثين والمهتمين بمستقبل البشرية الآن يرجح أن يكون للمحلى دور كبير فى هذا المستقبل، حيث ترتبط فيه المنظومة الإيكولوجية مع منظومة المياه والطاقة لدعم منظومة الطعام وحياة البشر، نركز على كيفية تطوير تلك المنظومة من خلال الاستفادة من الأبحاث والتجارب الرائدة، خاصة فى الجنوب العالمى، والتى يمكن من خلالها بناء سرديتنا المحلية الخاصة.
الزراعة، التى هى النشاط الرئيسى لسكان الجزيرة، بحاجة للتحول إلى نشاط يدر عائدًا أفضل من خلال إنتاجية عالية وقيمة مضافة بربطها بباقى سلسلة القيمة فى منظومة الطعام، مثلًا: إضافة أنشطة محلية مثل التعليب والتغليف المستدام أو إنتاج الدقيق محليًا والعديد من الروابط الممكنة الأخرى، ودعم ذلك من خلال تعاونيات تربط المنتجين معًا وتسهم فى التسويق ومشاركة الفائدة. ولأن الزراعة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأغلب أهداف التنمية المستدامة، ولكى نفعّل هذا الارتباط، فلابد أن تتحول الزراعة إلى نشاط لا يلوث الموارد الرئيسية التى يحتاجها مثل المياه والتربة، وذلك من خلال الاستخدام المفرط للكيماويات، سواء للأسمدة أو مبيدات الحشائش والأمراض. كما يجب أن يقلل إلى الحد الأدنى من الهدر الناتج، وخاصة أثناء الحصاد والنقل، وهو ما يحدث غالبًا لنقص الممارسات الجيدة فى التخزين والنقل.
• • •
استطاعت الطالبة التى تولت التعامل مع منظومة المياه أن تتوصل، من خلال البحث والنقاشات والعديد من الزيارات للجزيرة، إلى مقترحات يمكن اعتبارها فعالة وواقعية، وخاصة تلك المتعلقة بكيفية التعامل مع الجزيرة كمعمل حضرى ريفى يمكن من خلاله أن يكون مؤثرًا على السياق المحيط به. كما أن الأفكار الخاصة بالمعالجة المحلية الإيكولوجية للمياه والاهتمام بجرد المياه، سواء الداخلة أو الخارجة من الجزيرة، سيكون لها دور مهم فى المنظومة المقترحة. بينما لم يتمكن الطلبة الآخرون المكلفون بالمنظومات الثلاث الأخرى إلا من الوصول إلى بعض الأفكار الأولية التى يمكن البناء عليها لاحقًا. ونطور الآن أسئلتنا لتتناول طبيعة التدخلات التى يجب اقتراحها حتى يمكن الدفع بتحول متجدد للجوانب التى تتناول منظومة المياه والطعام والطاقة والإيكولوجيا فى العمران القائم، والتى يمكن لها ليس فقط الإسهام فى تحسين نوعية الحياة للسكان والسماح بإمكانيات محدودة للنمو، ولكن أيضًا تمكين تحول يشمل الجميع ولا يمثل عبئًا كبيرًا على السكان كما لا يتطلب استثمارات خارجية كبيرة.
نتطلع لأن تمكننا الأدوات التصميمية التى بحوزتنا من اقتراح تحول عمرانى لا يغير من التركيب الجوهرى لتلك الجزيرة، ولكنه يسمح باستعادة جوهر العلاقات بين العمران بما فيه من مكان للسكن وأماكن للنشاط الاقتصادى مثل الزراعة والطبيعة، بصورة يدعم فيها كل منهما الآخر. ولأن هذا العمران والجزيرة نفسها مرتبطان بالمدينة، فيمكن لتلك التحولات المرتقبة أن تكون ذات أثر فعال فيما حولها. وسنستعين فى ذلك، كما قمنا سابقًا، بخبراء من مجالات مختلفة ذات صلة كى نستفيد من معرفتهم وخبراتهم، كما سنواصل استماعنا لساكنى الجزيرة.
كتب بول روبرتس فى كتابه القيم «نهاية الطعام» أن الطعام عمل على مدى آلاف السنين كالحبل السرى الذى يربط العالم المادى والطبيعى، وبفصل أو تقليص العلاقة بين الاستهلاك والإنتاج نتحرك بعيدًا عن العالم الحقيقى ونقلل من فهمنا واهتمامنا بوظائف الطعام وظروف إنتاجه. وقد يفسر هذا لنا كيف أن اهتمامنا بمنظومة الطعام، سواء فى جزيرة الدهب أو أى مكان آخر، هو فى جوهره اهتمام بإعادة تلك الروابط الجوهرية بين الإنتاج والاستهلاك من دون الإضرار بالعالم الطبيعى. ويدفعنا هذا أيضًا للبحث عن مقياس آخر بديل عن النمو، سمة «النمو» أو «نوعية الحياة» أو «الازدهار»، تكون معاييره الرئيسية هواء أنقى، وماء أصفى، وطعاما كافيا وآمنا، بالإضافة إلى الوصول للخدمات الرئيسية مثل التعليم والصحة من خلال منظومة نقل مستدامة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة