إذا كان تطوير الصحافة والإعلام بما يتلاءم مع التحولات التكنولوجية المتسارعة واجبا لا مفر منه، فالأوجب هو إصلاح المناخ السياسى والبيئة التشريعية التى تحيط بالمهنة؛ فلا تحديث للأدوات، ولا توطين للذكاء الاصطناعى فى غرف الأخبار، ولا علاج للبنية الاقتصادية للمؤسسات، يمكن أن يُعيد للصحافة جمهورها ما دام سقف الحرية منخفضا، والمعلومات غير متاحة، والقوانين السالبة للحرية لا تزال سيفًا مصلتا على رقاب الصحفيين.أى حديث عن «خارطة طريق» لعلاج أزمات الصحافة والإعلام، هو حرث فى البحر، ما لم ترفع القيود عن المنصات الصحفية، كى تتمكن من القيام بوظائفها الأساسية، من إخبار الناس ونقل ما يدور فى كواليس المؤسسات دون وصاية، ومساءلة المسئولين نيابة عن المواطنين.ما الجدوى من التحديث والتطوير إذا كان الصحفى لا يستطيع أن يمارس حقه فى التغطية بالشارع دون الحصول على تصريح مسبق؟، وما قيمة غرف الأخبار الذكية إذا ظل الصحفيون عاجزون عن الوصول للمعلومة ويتم ملاحقتهم، بسبب منظومة تشريعية تقنن الحجب والمنع وتبقى على الحبس فى قضايا النشر، رغم وجود نصوص دستورية واضحة تُلزم الدولة بإصدار قوانين تكفل حرية تداول المعلومات، وتلغى العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر؟لم تقتصر دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى التى أطلقها الشهر الماضى لتطوير الإعلام على تحديث الأدوات أو تدريب الكوادر؛ بل تضمنت التأكيد على حرية التعبير، وإتاحة المعلومات خاصة فى أوقات الأزمات، واحتضان الآراء الوطنية المتنوعة بما يعزز التعددية والانفتاح الفكرى.لو أخذت دعوة الرئيس بجدية، لأمكن أن تكون مدخلا لإصلاح حقيقى يعيد للصحافة موثوقيتها وجاذبيتها، فيعود الجمهور إلى المنصات التى هجرها بحثا عن معلومة غائبة ورأى ناقد ووجهة نظر مختلفة.الواقع أن استدعاء الرئيس للمسئولين عن ملف الإعلام، لم يأتِ من فراغ فالجميع أدرك مؤخرا مدى القصور الذى يواجه الإعلام، وهو ما أضعف قدرته على المواجهة.الهيئات الإعلامية عقدت بعد اجتماع الرئيس مجموعة من اللقاءات لمناقشة كيفية النهوض بالمنظومة الإعلامية، إلا أن تلك الاجتماعات لم تبحث بالشكل الكافى أصل المشكلة، إذ دارت المناقشات فى مجملها ــ وفق ما صدر من بيانات ــ على قضايا محاربة الشائعات وزيادة الإعلانات وتدريب الكوادر، فيما تراجعت الملفات الجوهرية، مثل حرية تداول المعلومات، ورفع سقف حرية التعبير، وتعديل الترسانة التشريعية المقيدة للصحافة، وكأن رسالة الاجتماع الرئاسى لم تصل إلى أصحابها.فى عصر مال فيه مزاج الجمهور من الفئات العمرية الأحدث إلى المنصات غير التقليدية، أصبح التمسك بنفس الأطر الحاكمة لعمل مؤسساتنا هو أقصر الطرق لفقدان ما تبقى من جمهور الصحافة التقليدية، فلا منصة حكومية كانت أو خاصة يمكنها الصمود إذا استمر الحال على ما هو عليه، فالصحافة بطبيعتها لا يمكن أن تعيش إلا لو كان هناك مناخ مفتوح أو حتى هامش يسمح بالاشتباك والنقد وعرض مختلف الآراء.الأزمة الاقتصادية التى تعصف بالمؤسسات الصحفية، وانكماش سوق الإعلانات لصالح المنصات الجديدة، وتراجع الصحافة الورقية، كلها حقائق لا يمكن إنكارها، لكن أى حلول اقتصادية ستظل مجرد مسكنات إن ظل المحتوى الصحفى فاقدا للمصداقية والجاذبية، فالإعلان يذهب إلى حيث يذهب الجمهور، والجمهور لا يذهب إلا حيث يجد صحافة تشبع شغفه فى المعرفة وتنقل وجهة نظره إلى صانع القرار.لا ينكر أحد أن هناك خللا واضحا فى المعايير المهنية الحاكمة لعمل غرف الأخبار، إلا أن معالجة هذا الخلل، لا يكون بإعادة تدوير البيانات والأخبار الرسمية، بل بتدريب الصحفيين على إنتاج محتوى مستوفى العناصر ومتنوع المصادر، وهو ما يصعب تحقيقه فى ظل المناخ القائم.إنقاذ الصحافة يبدأ، أولا بتهيئة المناخ العام وتوسيع هامش الحرية، وإعادة النظر فى البيئة التشريعة الحاكمة بما يسمح بأداء الصحفيين مهامهم دون ملاحقة، وإصدار قانون يضمن حرية تداول المعلومات، ثم يأتى بعد ابتكار نماذج تنافسية ووضع خطط لرفع كفاءة وتأهيل الصحفيين على أدوات الصحافة الحديثة.دعوة الرئيس قد تمثل فرصة نادرة لمراجعة المسار، لكن إذا أصر البعض على تقديم ما هو واجب على ما هو أوجب فستظل صحافتنا كما هى محلك سر.إنقاذ الصحافة ووضعها على مضمار المنافسة والمواجهة والقدرة على إقناع الجمهور يبدأ أولا بالاعتراف بأن الأزمة سياسية وتشريعية فى الأساس قبل أن تكون تقنية أو مالية.
مقالات اليوم حسن المستكاوي جاري لينكر ينتصر على الـ«بي. بي. سي» عبد الله السناوي الهجوم الإسرائيلي وتداعياته.. الهجوم المضاد وحدوده عماد الدين حسين سقوط الأوهام بعد الهجوم على الدوحة سمير عمر من رأى منكم أحدا يثق بإسرائيل وأمريكا..! نبيل الهادي البحث عن منظومة طعام بديلة في جزيرة الدهب سمير العيطة حول اللامركزية والفدراليّة في سوريا خولة مطر «ربي يرجعهم بالسلامة» من الصحافة الإسرائيلية فيلم وثائقي يكسر جدار الصمت.. إسرائيل تواجه ماضيها الدموي
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك