التشغيل والهجرة والتنمية فى مصر
السبت 8 نوفمبر 2025 - 6:15 م
منذ أسبوعين تناولنا على هذه الصفحة تعرّضَ سردية التنمية فى فصلها الرابع، المعنون بـ «كفاءة ومرونة سوق العمل»، لمسألة التشغيل فى مصر. اعتبرنا أن الفصل يركز على عرض العمل باعتباره ضرورة تأهيله لما يطلبه سوق العمل، وعلى تمتعه بشروط وظروف العمل اللائق. هذا جانب حيوى فى مسألة التشغيل، ولكننا تمنينا لو أن السردية قد خصصت الفصل كله للتشغيل، وجمعت فيه كلا من اعتبارات عرض العمل والطلب عليه، ولو أنها قد أخذت ببعض المفاهيم والاعتبارات الغائبة عنها.
نتطرق اليوم لقضية الهجرة، التى اعتبر الفصل الرابع من السردية أن سياساتها من ضمن سبع مجموعات من السياسات المتعلقة بعرض العمل، تشمل كذلك سياسات التعليم، والتعليم الفنى، والتعليم العالى، والتدريب المهنى، ومشاركة المرأة فى النشاط الاقتصادى، وإدماج الفئات الأكثر احتياجا. فى منظور السردية، سياسات الهجرة تشمل تأهيل اليد العاملة المصرية لكى تستطيع المنافسة فى أسواق العمل الخارجية، وإثبات هذا التأهيل بشهادات مهارية يكتسبها العمال المهاجرون. ومن ضمن سياسات الهجرة، يوصى الفصل الرابع كذلك بـ«توسيع الاتفاقيات الثنائية مع الدول المختلفة». أما الهدف من سياسات الهجرة فهو دعم الاقتصاد الوطنى من خلال التحويلات المالية والخبرات المكتسبة.
سياسة الهجرة من أجل العمل تحتمل مزيدا من التفصيل فى السردية، على اعتبار أهميتها لكل من التشغيل والتنمية فى مصر. علاقة الهجرة بكل من التشغيل والتنمية تستحق المناقشة أولا، وبعد ذلك تأتى الإجراءات التى تنطوى عليها سياسة الهجرة. التشغيل فى أسواق العمل الخارجية خفف الضغوط على سوق العمل المصرية منذ السبعينيات من القرن الماضى، وسيبقى التشغيل الخارجى ضروريا طالما استمر معدل النمو فى الطلب على العمل، أى فى فرص العمل المتاحة، متخلفا عن معدل النمو فى قوة العمل، وهو ما خبرته سوق العمل المصرية فى العقود الأخيرة.
يُنتظَرُ ارتفاع معدل النمو فى قوة العمل فى السنوات العشر القادمة نتيجة لنمو حجم السكان فى سن العمل، أى السكان فى سن ما بين 14 و64 عاما، بمعدل مرتفع يتعدى ما كان عليه فى العقد الماضى. التقدير هو أن ينمو حجم السكان فى سن العمل فى الفترة 2025-2035 بمعدل 2.2 فى المائة سنويا، أى بما يتعدى 1.6 مليون فرد، بينما اقتصر هذا النمو على المليون فيما بين 2010 و2025.
• • •
المصريات والمصريون المشاركون فى النشاط الاقتصادى، سواء داخليا أو خارجيا، أى هاجروا أم لم يهاجروا، يؤهلون بالاستفادة من سياسات التعليم بكل أنواعه ومستوياته ومن سياسات التدريب. يلاحظ أن التعليم الجيد يعظِّم من آثار التدريب، والتدريب بدوره نوعان: عام وخاص. هو عام إن تدربت على ممارسة مهنة ما، وهو خاص إن كان تدريبك موجها لشغل فرص عمل محددة، أو فى أسواق عمل معينة.
فى الهجرة، التعرف على الطلب على العمل فى الأسواق الخارجية حيوى لرسم السياسات المناسبة فى مجالى التعليم والتدريب، ولعقد الاتفاقيات الثنائية مع الدول التى يوجد فيها طلب على العمل الخارجى. هذه الاتفاقيات منها ما يتعلق بأعداد العمال ومهاراتهم وشروط عملهم وظروفه، ومنها اتفاقيات الاعتراف بمؤهلات العمال، من شهادات جامعية وغير جامعية، ومستويات المهارة المكتسبة بالممارسة فى سوق العمل، ومنها اتفاقيات التأمينات الاجتماعية التى تحمى حقوق من عملوا فى أسواق عمل خارجية فى التأمينات الاجتماعية التى ساهموا فيها بما اقتطع من أجورهم. بعض التفصيل فى أنواع الاتفاقيات من شأنه أن يبرز العلاقة بين الهجرة والتشغيل والتنمية.
سياسة فعالة للهجرة تتطلب دراسة الطلب فى أسواق العمل الخارجية. دول الخليج والأردن، ومن قبل ليبيا، هى المقصد الأساسى لليد العاملة المهاجرة المصرية، والتقديرات تذهب إلى أنها تستوعب ما يقرب من 70 فى المائة من الهجرة من أجل العمل المصرية. غير أن النمو فى الطلب فى هذه الأسواق يتباطأ، وغير متوقع أن يرتفع معدله ارتفاعا ملموسا، إن ارتفع أصلا. ومع ذلك فدراسة التطور فى الطلب على العمل فى هذه الأسواق ضرورية لأن هيكل الطلب على العمل فيها يتغير نتيجة لتطلع دول الخليج بالذات إلى إحداث تغييرات فى بنى اقتصاداتها لتتحول إلى أنشطة مرتفعة الإنتاجية والقيمة المضافة، وبالتالى إلى مهن تتطلب مستويات مرتفعة من المعرفة. التعرف على هذا التطور ضرورى لرسم سياسات التعليم والتدريب المناسبة.
نتيجة للشيخوخة، ولتناقص أحجام قواها العاملة، وللتباين بين العرض والطلب على المهارات فيها، أسواق العمل الأوروبية هى التى ينمو فيها الطلب على اليد العاملة الأجنبية، بصرف النظر عن خطاب اليمين الشعبوى العدائى نحو الهجرة والمهاجرين الآتين من الجنوب العالمى، خاصةً من بلدان المنطقة العربية، بعيد تماما عن التوقع أن تحل الأسواق الأوروبية محل الأسواق العربية فى استيعاب اليد العاملة المهاجرة المصرية، ولكن دراستها واجبة للتعرف على نوع الطلب على العمل فيها وتوقعات تطوره. هذه الدراسة ضرورية لمعرفة مع أى دول يجدر إبرام اتفاقيات ثنائية.
• • •
المعدل المرتفع لنمو السكان فى سوق العمل المذكور أعلاه، خاصةً إن اقترن بإجراءات تؤدى إلى نمو قوة العمل، برفع معدل مشاركة المرأة فيها، وبإدماج الفئات الأكثر احتياجا، يسمح بتلبية الطلب على العمل فى الأسواق الخارجية من دون تأثير سلبى على سوق العمل الداخلية المصرية، أى من غير أن يحدث عجز فى تلبية الطلب على بعض المهن والمهارات، أو الطلب فى بعض الأسواق المحلية فى المناطق الريفية.
ذكر العجز فى بعض المهن والمهارات يؤدى بنا إلى مناقشة العلاقة بين الهجرة من أجل العمل والتنمية. الهجرة سببها نقص التنمية، والهجرة يمكن أن تؤدى إلى التنمية كما يمكن ألا تؤدى إليها. إن حدث عجز فى الأطباء فى الأماكن الريفية مثلاً بحيث لم تُلبَّ احتياجات سكان الريف للرعاية الطبية، فالتنمية فى شقها البشرى تتراجع. هجرة الأطباء المصريين المستمرة منذ سنوات أدت إلى عجز فى بعض التخصصات وفى الأطباء عموما، وهو ما يعنى أنها كانت نزيفا للأدمغة وتقويضا للتنمية.
ارتفاع معدل النمو للسكان فى سن العمل يسمح بعلاج هذا التقويض إن اتخذت السياسات التعليمية المناسبة لذلك. والاتفاقيات مع الدول المستقبلة لليد العاملة المصرية مرتفعة مستوى التعليم والمهارات يمكن أن تشمل اشتراك هذه الدول فى تمويل تعليم أصحاب المهن المطلوبة. التعامل مع النقص فى هذه المهنة أو تلك، ومعالجة نزيف الأدمغة ممكنان باعتماد السياسات الملائمة وتطبيقها.
غير أن ثمة إجراءات لنقل المهارات والأدمغة المكتسبة أثناء الهجرة تجعلها مفيدة للتنمية. الفائدة للتنمية فى مصر، وهى بلد المنشأ، تحدث عند عودة المهاجر النهائية إلى مصر، كما أنها تحدث أثناء وجوده فى الخارج. عند العودة النهائية، إجراءات إعادة إدماجه فى سوق العمل الداخلية بما اكتسبه من مهارات فى الخارج، سواء كان ذلك بحصوله على فرصة عمل فى مؤسسة قائمة أو بإنشاء مشروعه الخاص، مع تدريبه أو إعادة تدريبه على نشاطه الجديد، هو مما يؤدى إلى النمو والتنمية. تنظيم النشاط عبر الوطنى للمهاجرين الموجودين فى الخارج وتيسيره يسهم أيضا فى التنمية.
أمثلة على ذلك: الجراح العامل بالخارج الذى يأتى إلى مصر كل بضعة شهور لإجراء عمليات جراحية فيها، والأستاذ الجامعى الذى يرجع كل فترة من جامعته فى بلد المقصد ليلقى محاضرات على الطالبات والطلبة المصريين، وصاحب العمل الذى ينشئ مشروعا اقتصاديا هادفا يديره ضمن أعماله فى بلد المقصد ومصر.• • •
التحويلات المالية هى التعبير الأكثر بروزا عن علاقة الهجرة بالتنمية. فى مصر، فى السنة المالية 2024-2025 بلغت التحويلات إلى مصر 36.5 مليار دولار، تمثل أكثر من 9 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى تلك السنة. المساندة الفنية والإدارية للأسر المتلقية للتحويلات ترفع من كفاءة استخدامها وتعزز التنمية على المستوى الجزئى. على المستوى الكلى، الحوافز تؤدى إلى توجيه التحويلات إلى القطاعات والصناعات مرتفعة القيمة المضافة، فضلا عن أنها تساند ميزان الحساب الجارى والعملة الوطنية، فتساعد على تيسير استيراد السلع والخدمات الضرورية للنشاط الاقتصادى، للاستهلاك وكمدخلات للإنتاج.
السردية مشكورة على إدراجها للهجرة فى إطار تناولها لمسألة التشغيل، إلا أن للهجرة وسياساتها، ولعلاقتها بالتشغيل والتنمية، جوانب مختلفة تستحق شيئا من التفصيل. استعرضنا بعض هذه الجوانب، والأمل هو أن تتوسع السردية فيها فى نصها النهائى.
أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا