تحميل العقل ومستقبل الخلود الرقمى

الأحد 9 نوفمبر 2025 - 7:15 م

لم يكن فلاسفة العقل فى القرن الماضى يفكرون فى مستقبل العقل ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات مثلما يفعلون الآن. ويرجع ذلك إلى سببين. فأما أحدهما فهو أنهم قد شغلوا أنفسهم بتحليل جغرافيا العقل والحالات العقلية. وأما الآخر فهو أن التقدم فى دراسات المخ وتصويره، وفى الذكاء الاصطناعى، لم يكن قد بلغ حدًا يسمح لهم بوضع بعض النبوءات حول ما سيصير إليه حال العقل، مثل تحميل العقل.

ثمة ثلاثة تطبيقات تكنولوجية محتملة من شأنها أن توسع قدراتنا العقلية وتعززها: وهى تمديد العقل، ودمج العقل، وتحميل العقل.

العقل بين التمديد والدمج

ترتبط هذه التطبيقات بالتحرر من المخ. وهذا المقال يعالج التطبيق الثالث، غير أن الفهم الجيد له يتطلب أن نلقى نظرة خاطفة على التطبيقين الأولين. أنظر أولا إلى تمديد العقل. هل تعرف أرقام هواتف أكثر مما خزنته فى ذاكرتك؟ الجواب عند آندى كلارك وديفيد تشالمرز فى مقال «العقل الممتد» 1998: نعم. فالعقل يمتد خارج الجمجمة إلى العالم حيث نعتمد على الأجهزة غير البيولوجية مثل الموبايل، وفى استخدام المسيرات فى الحروب، حيث تمتد عقول مشغلى المسيرات إلى ما هو أبعد من أجسامهم. إذا صح ذلك، فإن اعتمادنا المتزايد على الأجهزة التكنولوجية فى السنوات القادمة قد يعنى أن الكثرة الغالبة منا تفرغ بعض اعتقاداتها وحالاتها العقلية الأخرى إلى أجهزة التخزين الخارجية. لكن، هل يمكن التخلص من جميع حالاتك العقلية؟ وإن شئت فقل: هل يمكن تحميل عقلك بالكامل على كمبيوتر؟

تأمل ثانيًا فى دمج العقل. خضع الباحث البريطانى كيفين وارويك فى العام 1988 لعملية تركيب شريحة إلكترونية داخل يده. وبعد الجراحة، أصدرت هذه الشريحة إشارة مكنته من تشغيل الأبواب والأضواء والكمبيوتر. وعاش نولاند أربو مع الشلل لمدة ثمانى سنوات، ولكنه خضع لعملية غرس شريحة فى مخه صممتها شركة «نيورالينك»، واستطاع أن يلعب الشطرنج بعقله فقط.

الإنسانية المتعالية والتفرد التكنولوجى

إن تقنية وصلة المخ والكمبيوتر مثل «نيورالينك» ترمز إلى عصر جديد من الدمج بين المخ البشرى والآلات. ومع ذلك، يتوق أنصار الإنسانية المتعالية إلى ما هو أكثر من ذلك. إنهم يطمحون إلى التخلص من الموت، واستبدال المخ الاصطناعى بالمخ البيولوجى. ما يزال تحميل العقول محصورًا فى الخيال العلمى، لكن بعض الباحثين يرونه قريبا. يتوقع راى كورزويل أننا سنكون قادرين على تحميل المخ إلى كمبيوتر أو جسم أندرويد فى أواخر العام 2030. ويزعم أننا نقترب بسرعة من التفرد التكنولوجى الذى سيحدث بحلول العام 2045، وهى مرحلة يتجاوز فيها الذكاء الاصطناعى الذكاء البشرى. يقول راى كرزويل فى كتابى «التفرد قريب» 2005، طرحت نظريتى القائلة إن الاتجاهات التكنولوجية المتقاربة والمتسارعة تفضى إلى تحول جذرى للبشرية. هناك مجالات عدة رئيسية من التغير تتسارع بوتيرة متزامنة: انخفاض تكلفة القدرة الحسابية، وفهم أفضل للبيولوجيا البشرية، وإمكانية الهندسة على نطاقات أصغر بكثير. ومع نمو قدرات الذكاء الاصطناعى وتزايد سهولة الوصول إلى المعلومات، فإننا ندمج هذه القدرات دمجا دقيقا مع ذكائنا البيولوجى الطبيعي. وفى نهاية المطاف، سيمكن النانو تكنولوجى هذه الاتجاهات من أن تتوج بتوسيع أمخاخنا مباشرة من خلال طبقات من الخلايا العصبية الافتراضية فى السحابة. وبهذه الطريقة، سنندمج مع الذكاء الاصطناعى ونعزز أنفسنا بقوة حسابية تفوق بملايين المرات ما منحتنا إياه بيولوجيتنا».

معنى التحميل

تقدم الوظيفية الحسابية الأساس الميتافيزيقى لتحميل العقل عندما تقرر أن العقل برمجية المخ. ولكن هذه الوظيفية تأتى فى صورتين: إحداهما قوية والأخرى ضعيفة. تقول القوية إن العقل هو برمجية المخ، تماما كما أن البرامج التى تعمل على أجهزة الكمبيوتر هى برمجياتها. ونظرا لأن هذه الصورة القوية تفتقر إلى دليل، يفترض أنصار الخلود الرقمى شيئا يقارب الصورة الضعيفة التى تقول إن العقل هو برمجية المخ بالمعنى الواسع، وهو ما لا يسوغ تحميل العقل بالطريقة التى نحمل بها البرامج العادية. بعبارة دقيقة، تقول الوظيفية الحسابية الضعيفة إن العقل هو التنظيم الحسابى للمخ. قد لا يتكون التنظيم الحسابى من برمجية رقمية عادية، بل من بنية ووظائف الشبكات العصبية التى تشكل المخ.

إذا لم يكن العقل برمجية بالمعنى الحرفي، فماذا يعنى التحميل؟ يفهم أنصار الخلود الرقمى تحميل العقل بمعنيين: أحدهما هو محاكاة المخ؛ أى بناء محاكاة حسابية مفصلة لمخ فردى داخل كمبيوتر رقمى اصطناعى. والآخر هو استبدال المخ؛ أى استبدال أطراف اصطناعية بأجزاء من المخ تدريجيا حتى تحل محل المخ بأكمله.

أنواع التحميل

     •     التحميل التدميرى: يتمثل فى تجميد المخ وتقسيمه، وتحليل بنيته طبقة تلو الأخرى. فى كل طبقة، يسجل توزيع الخلايا العصبية والمكونات الأخرى ذات الصلة، بالإضافة إلى طبيعة ترابطاتها. وبعد ذلك تحمل هذه المعلومات فى نموذج كمبيوتر يسعى إلى محاكاة المخ الأصلى.

     •     التحميل التدريجى: يعتمد على النقل النانوى؛ أى إدخال روبوت نانوى واحد أو أكثر إلى المخ، ليرتبط بخلايا عصبية مفردة ويتعلم محاكاة سلوكها وكيفية ارتباطها بالخلايا العصبية الأخرى. وبمجرد محاكاة سلوك الخلية العصبية جيدا، تحل الروبوتات النانوية محل الخلية العصبية الأصلية، وتحمل المعلومات ذات الصلة إلى كمبيوتر عبر أجهزة إرسال لاسلكية. تتكرر هذه العملية لكل خلية عصبية.

     •     التحميل غير التدميرى: طريقة غير جراحية تعتمد على تصوير المخ، وهى مشابهة للتصوير بالرنين المغناطيسى الوظيفى، ولكنها تتمتع بالقدرة على تسجيل الديناميكيات العصبية والتشابكية. وعلى الرغم من أن هذه التقنية غير متوافرة الآن، فإن تطويرها من الأمور المتوقعة. وعلى عكس التحميل الأول، يحافظ التحميل غير التدميرى على المخ الأصلى.

يتخيل نيك بوستروم مزايا لتحميل العقل:

(1) لن تخضع عمليات التحميل للشيخوخة البيولوجية.

(2) يمكن عمل نسخة احتياطية لعمليات التحميل، بحيث يمكن إعادة تشغيلك إذا حدث شىء غير مخطط له، ما يسمح لك بالعيش إلى أجل غير مسمى.

(3) سيفكر الفرد المحمل داخل كمبيوتر أسرع ألف مرة مقارنة بالمخ البيولوجى.

• • •

تخيل رجلا فى منتصف العمر يدعى إبراهيم، يشعر بآلام فى الصدر. قرر رؤية طبيب القلب الذى يفحصه. بعد وقت قصير، تلقى إبراهيم مكالمة هاتفية تفيد بأنه فى حاجة إلى زيارة متابعة. عند وصوله، يقول الطبيب: كشفت الاختبارات أنك تعانى من خلل فى القلب لا سبيل إلى علاجه، وما يتبقى لك من الحياة أشهر قليلة. وعلى الرغم من عدم وجود علاج، لدى خيار واحد ممكن بالنسبة إليك. طور فريق بحثى فى «معهد بشر الغد» إجراء مهما. سيمسحون مخك وجسمك ويسجلون تكوينك العقلى والجسمى. وعندما يكتمل المسح، سيصممون جسم أندرويد بناء على جسمك الحالى ثم يحملون نمط عقلك إلى كمبيوتر يعمل على تشغيل جسم الروبوت. سيتخلصون من القشرة البيولوجية القديمة، وستكون قادرا على الاستمرار كما كنت من قبل مع الجسم الجديد؛ نظرا إلى أن أجسام الروبوت هذه تدوم لفترة طويلة ويمكن استبدالها بسهولة إذا تلفت. هل أحجز لك موعدا؟ يشعر إبراهيم بالفزع، ويعود إلى المنزل ليتحدث مع زوجته وعائلته، ويوافق فى النهاية. عندما يفتح عينيه بعد الإفاقة من العملية، يدرك أن لديه جسما جديدا تماما، مشابها لجسمه القديم، ولكنه متجدد وأقوى. وتراه يشعر بنفسه ويقول بارتياح: لقد سارت الأمور على ما يرام.

يمكن أن نوقف التجربة الفكرية ونضيف إليها لمسة واحدة. بعد لحظات من إفاقة إبراهيم، يأتى شخص ويطرق الباب. وعندما يدخل، يندهش إبراهيم من أنه إبراهيم. اتضح أن وحدة التخلص البيولوجى فى المنشأة معطلة حاليا، ومن ثم لم يتمكن الفريق البحثى من التخلص من الجسم البيولوجى كما يفعلون عادة. ولكن، نظرا لأنهم تمكنوا من معرفة أن القلب البيولوجى كان على بُعد أيام من الاستسلام، فقد قرروا السماح لإبراهيم بالعيش فى الجسم البيولوجى إلى أن يموت بطريقة طبيعية، مع السماح له أيضا بالعيش فى جسم الروبوت. يحدق أحدهما فى نظيره، ولا يعرف أى إبراهيم منهما ما يفكر فيه الآخر.

يتصور بعض علماء الأعصاب، مثل مايكل جرازيانو، إمكانية تحميل العقل. ويشك آخرون فى إمكانية حدوثه على الإطلاق، لأن تخزين المخ وإنعاشه «أمل زائف» بتعبير مايكل هندريكس. عندما تعرض عليك شركة تجميد مخك حتى تتمكن يوما ما من تحميل عقلك على كمبيوتر، فلا تنخدع.

صلاح إسماعيل

مؤسسة الفكر العربى

النص الأصلى:

https://tinyurl.com/4nbatcua

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة