القانون.. الأخلاق.. والمجتمع
السبت 6 سبتمبر 2025 - 9:52 م
مع تعدد وسائل التواصل الاجتماعى، وخصوصًا تلك القائمة على المحتوى البصرى (الصور والفيديوهات)، وبعد أن أصبحت هذه المنصات ليست فقط قاصرة على إظهار التميز والرقى، ولكنها أصبحت أيضًا مصدرًا للدخل ومعيارًا للمكانة والمهارة والاستحقاق، ظهرت أزمات عديدة لمن أصبح يُطلق عليهم ــ بشكل تعوزه الكثير من الدقة ــ «المؤثرون»، مما ولّد الكثير من المشاكل والتحديات والأزمات، منها ما يتعلق بالقانون، ومنها ما يتعلق بالأخلاق والقيم، ومنها ما يتعلق بالتقييمات السيكولوجية والاقتصادية لتأثيرات هذه الصناعة الجديدة على المجتمع.
هذه المشاكل والتحديات ليست مطروحة فقط فى مجتمعاتنا العربية، ولكنها مطروحة بنفس القدر من الاهتمام والحدة فى العديد من المجتمعات الغربية واللاتينية والآسيوية والإفريقية أيضًا. فرغم اختلاف قيم ومعايير كل مجتمع فى تقييم دور هؤلاء المؤثرين والمؤثرات، إلا أن محتوى الطرح لا يختلف كثيرًا فى كل حالة!
• • •
منذ سنوات، كانت ابنتى تتابع أحد المؤثرات الأمريكيات، والأخيرة لم تكن سوى طفلة تقوم بتأدية بعض الرقصات سريعة الإيقاع، ثم تحولت تدريجيًا إلى نجمة من نجوم مجتمعات التواصل الاجتماعى فى العالم يتابعها عشرات الملايين، حيث قامت بتطوير المحتوى الذى تقدمه من مجرد الاستعراض الراقص إلى مشاركة متابعيها كل تفاصيل حياتها بما فيها تلك شديدة الخصوصية، ثم تدريجيًا استدرجت – عن طريق أم المؤثرة التى أصبحت بمثابة مديرة لأعمالها – «كاست» كاملًا من الأطفال الذين أصبحوا تدريجيًا مراهقين ومراهقات، قبل أن تدب الخلافات بينهم وتخرج إلى العلن عدة فضائح أخلاقية وجنسية وأخرى لها علاقة بعمالة الأطفال. وما زالت مجموعة القضايا هذه بخصوص هذه المؤثرة تُنظر أمام القضاء الأمريكى وتحقق فيها السلطات الفيدرالية. والمثير أن المؤثرة التى أصبحت شابة الآن ما زالت تواصل تقديم هذا المحتوى الشائك، وقد قامت شبكة «نتفليكس» بعمل وثائقى عن هذه القضية واختارت للوثائقى اسم Bad Influence- the Dark Side of Kidfluencing أو «تأثير سيئ – الجانب المظلم من حياة المؤثرين الأطفال».
ولأن موضوع المؤثرين وصناعة التأثير على مواقع التواصل الاجتماعى أصبح عالميًا، فخلال الأسابيع القليلة الماضية، تم توقيف عدد من المؤثرين المصريين على ذمة قضايا عدة تتعلق بتهم خطيرة مثل غسيل الأموال والاتجار بالبشر، وأخرى تتعلق بمخالفة قيم الأسرة والمجتمع!
• • •
أولًا، من حيث المبدأ، وطالما أن منظومة العدالة تنظر فى هذه القضايا ولم تصدر أحكاما نهائية بخصوص هذه التهم، فلا تعليق على أى حالة من هذه الحالات، ولننتظر حكم القضاء بشأنها. ثانيًا، ورغم أنى كنت منذ فترة طويلة أستبعد احتمال قيام أى من هؤلاء المؤثرين بجرائم خطيرة مثل الاتجار بالبشر أو تجارة المخدرات أو غسيل الأموال، إلا أن قناعتى هذه تغيّرت مؤخرًا من خلال الكشف عن عدة قضايا مشابهة تورط فيها مؤثرون فى الكثير من الدول الغربية وتمت إدانتهم بالفعل بخصوص بعض هذه القضايا! ومرة أخرى، لا تعليق ولا اتهام من جانبى لأى من المتهمين والمتهمات المصريين، عملًا بمبدأ أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته. ولكنى فقط أشير إلى أن المؤثرين والمؤثرات، مهما كانت مساحة شهرتهم أو أعمارهم أو وسطهم الاجتماعى، قد يكونون بالفعل قادرين على القيام بهذه الجرائم، وفى بعض الحالات، وتحديدًا فى الولايات المتحدة، كان بعض هؤلاء المؤثرين جزءًا من شبكة إجرامية أكبر وأعقد كثيرًا منهم ومنهن!
إذن، ففى السطور القليلة القادمة لن أعلق على الشق القانونى، ولكنى سأعلق بشكل عام على الشق الأخلاقى المتعلق بوسائل التواصل الاجتماعى فى الحالة المصرية تحديدًا.
صحيح أن لكل مجتمع سمات ثقافية وأخلاقية عامة، لكن ومع التطور التكنولوجى فى وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعى، لم يعد من الممكن فرض هذه السمات على كل أفراد هذا المجتمع! كان جيلى - مواليد نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات - مثلًا يتعلم بالأساس فى المدارس الحكومية، ويشاهد ثلاث قنوات تلفزيونية لا غير، لها مواعيد غلق محددة بصرامة، ويقرأ عددًا محدودًا من الجرائد الورقية، ويحتك بغيره من أفراد عادةً ينتمون لنفس الطبقة الاجتماعية، يشاهدون المحتوى الإعلامى والفنى نفسه، بل وفى نفس الموعد كل يوم تقريبًا، ويقضون الصيف تقريبًا فى نفس المصايف، ويستمعون تقريبًا إلى نفس الموسيقى، ويذهبون إلى نفس المساجد والكنائس ودور السينما والملاهى والمسارح وغيرها من أماكن الترفيه، وينتمون لأسر مستقرة نادرًا ما كان فيها حالات طلاق أو انفصال. فقد كان هذا الجيل الذى أنتمى إليه متقاربًا فعليًا فى أحكامه القيمية ومبادئه الأخلاقية!
أما الآن، ومع الزحف الرأسمالى بقيمه الاستهلاكية والاستفزازية، ومع تزايد الفجوة بشكل صارخ بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وكذلك فى ظل تزايد حالات الطلاق والانفصال بين آباء جيل «زد»، ومع تنوع المدارس التى أصبحت تعبر هى الأخرى عن التمييز الطبقى، ومع عصر الإنترنت ووسائل التواصل، فقد أصبح كل شىء فى حياة الأجيال الأصغر له تعريف طبقى: فلبسك وشكلك وأماكن خروجك وأكلك وشربك ومصيفك ومدرستك، بل وحتى أحيانًا دور العبادة التى تذهب إليها فى ظل تفاقم ظاهرة «الكومباوندات»، وطريقة كلامك، كلها أمور تحدد طبقتك، ومن ثم تصنع مجتمعك وتحدد جدارتك بعيدًا عن معايير الكفاءة والاستحقاق. فلم يعد الحديث عن أمور مثل «قيم الأسرة» أو «أخلاق المجتمع» له مردود واقعى بالمرة! فالمجتمع المصرى تحوّل فعليًا إلى مجتمعات مصرية، لكل منها قيم ومبادئ وأخلاق ومعايير للكفاءة والجدارة تختلف عن الأخرى!
• • •
هناك مشكلة تبدو بسيطة، ولكنها فى الواقع تسهم فى تعقيد هذا الواقع الاجتماعى المصرى، وهى أنه ورغم هذه الفجوات بين المجتمعات المصرية المختلفة اقتصاديًا واجتماعيًا، ومن ثم ثقافيًا، فإن عصر التكنولوجيا جعل كل هذه الطبقات قادرة على رؤية نمط حياة غيرها. ومن ثم، فإن طريقة الملبس والمأكل واللهو لطبقة أو لمجتمع بعينه أصبحت معروفة لباقى الطبقات. ولما كان من طبيعة البشر فى كل زمان ومكان محاولة الترقى أو على الأقل التظاهر بهذا الترقى للحصول على مكانة وجدارة اجتماعية أعلى، فقد أصبحت بعض الطبقات الأقل تريد التماهى مع الطبقات الأعلى وثقافاتها. ومن ثم، أصبح بعض هؤلاء المؤثرين فى حالة سباق دائم من أجل الحفاظ على المتابعين، بل وزيادتهم، ومن ثم محاولة تقليد أزياء وتصرفات ونمط حياة هذه الطبقة الأعلى!
بل وفى بعض الأحيان، فإن هؤلاء المنتمين إلى طبقات أدنى من المؤثرين وجدوا زيادة فى الطلب على مشاهدة مظاهر حياة البسطاء وطريقة حياتهم وأزيائهم من الطبقات الأعلى، الذين اعتبروا أن مشاهدة حياة هذه الطبقات الأقل مصدرًا للمتعة والتندر والشعور بالتفوق والاستحقاق! وتحت إلحاح الطلب على المؤثرين من كلتا الطبقتين: الطبقة الأقل التى تريد التعرف بشكل أكبر على نمط حياة الطبقات الأعلى وتحاول تقليدهم، والطبقة الغنية التى تجد فى حياة الطبقات الأقل مادة غنية للترفيه والاستمتاع والشعور بالتفوق، أصبحنا أمام أنماط مختلفة من الأزياء والرقصات والألفاظ التى تحاول إرضاء الجميع. ومن ثم، فإن الحكم على محتوى ما بأنه «غير أخلاقى» لم يعد فقط أمرًا غير واقعى، ولكنه تمييزى أيضًا، لأن نفس هذه الأزياء ونفس هذه الرقصات ونفس هذه الألفاظ والإيحاءات مسموح بها تمامًا للمنتمين للطبقات الأعلى الذين يعرضون نمط حياتهم بشكل علنى للجميع، ولا يحاسبهم أو يتهمهم أحد بخدش الحياء العام!
لا سبيل لمصر أمام هذه المشاكل التى تجعل من الأخلاق موضوعًا للمعاملة التمييزية السلطوية بين الطبقات، سوى تطبيق القانون على الجميع، واستبدال الحكم الأخلاقى غير الموضوعى – لاختلافه من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر – بالحكم القانونى العادل الذى يساوى بين الجميع!
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا