أمسية البردة و«الليالى المحمدية»
السبت 6 سبتمبر 2025 - 7:10 م
(1)
مضى زمن طويل جدًا على هذا التقليد الرائع (لا أعلم لماذا توقف ولماذا اختفى!) الذى ظل لسنوات سمة مميزة لاحتفالات التليفزيون بالمولد النبوى الشريف.
لو سألت أحدًا من مواليد سنة 2000 وما بعدها عن «أمسية البردة» أو «الليلة المحمدية» سيتعجب جدًا وتظهر على ملامحه فعلا وصدقا علامات عدم المعرفة وغياب أى مفهوم واضح لماهية هذه الليلة أو أى معلومات بشأنها!
أما أبناء جيلى (مواليد النصف الثانى من السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات) فمعظمهم يعرف جيدًا ما هى «أمسية البردة» واحتفالية «الليلة المحمدية»، التى أخذت شكلا دوريا منتظما طوال عقدى الثمانينيات والتسعينيات، ومعظمهم شاهدها أو استمع إليها فى نسخة أو أكثر من نسخها المرئية والمسموعة؛ واستمتع بها وتأثر بجمالها وبهائها وما تبثه من مشاعر حب وتعظيم وإجلال للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).
وذكرى مولده (صلى الله عليه وسلم) أحاطها المسلمون بعنايتهم، ووجهوا اهتمامهم بكل شوقهم ومحبتهم إلى رسولهم للحديث عنه (صلى الله عليه وسلم)، والتفنن فى التعبير عن هذا الشوق وهذه المحبة وهذا الغرام «بخير خلق الله كلهم».
(2)
وأعود إلى هذه الأمسية الرائقة النادرة الرصينة التى أتصور أنها كانت البداية أو التدشين الأصيل لما عرف بعد ذلك بالأمسيات الدينية الاحتفالية بمولد النبى الكريم (صلى الله عليه وسلم)، والتى اشتهرت باسم «الليلة المحمدية» فى نسخها الدورية المتنوعة التالية.
فى هذه النسخة النادرة الرائعة من الليلة المحمدية التى بقيت لنا وحفظتها تسجيلات التليفزيون (أظن أنها كانت مطالع الثمانينيات فى 1981 أو 1982)، كان واحدًا من الظهورات الأولى للفنان القدير على الحجار «مغنيا» فى هذه الليلة من ساحة المساجد التاريخية بالإسكندرية، وضمنها مسجد ومقام الإمام البوصيرى صاحب «البردة»، وقد أذيعت تلك الليلة بعنوان «أمسية البردة» للإمام شرف الدين أبى عبد الله البوصيرى «فى مدح المصطفى»، وقدمتها -آنذاك- الإعلامية والمذيعة القديرة درية شرف الدين.
وتخيل عزيزى القارئ أن نجوم هذه الليلة البهية الذين قاموا بالأداء الصوتى والتمثيلى؛ كانوا عمالقة المسرح والتليفزيون والإذاعة على مدى نصف القرن تقريبا؛ وعلى رأسهم: عبد الوارث عسر، عبد الرحيم الزرقانى، حمدى غيث، محمد الطوخى، محمد السبع، نبيل دسوقى، حمادة عبد الحليم، ميرڤت الجندى، منى قطان، خالد زكى، سعيد صالح، رضا الجمال، فاطمة التابعى، تيسير فهمى، عبد السلام الدهشان.. بمصاحبة كورال فرقة الموسيقى العربية والإنشاد الدينى، وكورال المسرح الغنائى، وكورال دار الأوبرا، وكورال قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية. تأليف الموسيقى وقيادة الكورال للدكتور يوسف شوقى، غناء فردى على الحجار وزينب يونس.
أما الإعداد والإخراج المسرحى للمخرج الراحل الكبير كرم مطاوع، ونقلها للتليفزيون المخرج الراحل نور الدمرداش.. وأتوقف هنا قليلًا أمام هذه النسخة من أمسية البردة التى شهرت وعرفت فيما بعد بالليلة المحمدية، وأسست لتقليد احتفالى بهى مشرق جميل بمولد النبى الكريم، بالكلمة والصورة والصوت واللحن، وكان تأثيرها عظيما وعميقا فى أجيال وأجيال.
(3)
وأنا أعيد الاستماع إلى نسخة «بردة البوصيرى» التليفزيونية هذه، استوقفنى صوتان مذهلان لطالما كانا سببا فى تسمُّرِى بجانب الراديو ساعاتٍ طوالا، أستمع إليهما منتشيا ومبتهجا ومتنعما بعطر «العربية» وجمال إيقاعها ورخيم أصواتها؛ الأول صوت محمد الطوخى العظيم الذى جعلنى وأنا صغير أقرأ بصوت عالٍ أحاول تقليده، وأدقق فى النبرات والتنغيم كى أصل إلى جمال صوته وفخامته وعمق رنينه.. ما استمعت إلى برنامج أو أوبريت أو لوحة إذاعية أو مسلسل تاريخى، وكان فيه حاضرًا، إلا سحرنى بصوته الذى لم أسمع مثله هدوءا ورسوخا وتمكنا وعمقا (اقترب منه محمود ياسين بعض الشىء، لكن يظل لمحمد الطوخى طلاوته التى لا مثيل لها).
«محمد الطوخى» صاحب الصوت المميز والنبرات الواضحة المهيبة، وكان صوته البصمة المميزة فى كل الأفلام الدينية والبرامج التليفزيونية والإذاعية ذات المحتوى الدينى صوته من السماء فيه جلال ومهابة وروحانية عجيبة تأخذك وتأسرك من حيث لا تدرى، وتملك عليك مجامع القلب والروح، فلا تستطيع له ردا، وتغمرك حالة من الخشوع والتأمل فيما ينطق به من أبيات شعرية أو تعليق صوتى أو رواية لسرد سينمائى.. إلخ.
أما الثانى فسعد الغزاوى بطل و«قال الفيلسوف» الذى كان بأحوال الحكماء شغوف، وكانت العظيمة سميرة عبد العزيز تسأله يوما وراء يوم عن المغزى والمعنى وراء مقولات وأفكار الفلاسفة والمتصوفة وأعلام الإنسانية فى الأدب والفكر والتاريخ.. كان متمكنا وأداؤه غاية فى الدقة والاحتراف والثقة.. ما تمنيت أن أسجل شيئا بصوتى إلا كى أجرب إن كنت أستطيع الاقتراب شيئا من أداء الغزَّاوى رفيع المقام.
(4)
ما يزيد على الساعة من الشعور بالجمال والجلال واستحضار جوانب من عظمة النبى الرسول والإنسان الملهم، فى صفاته وجماله وشمائله، كل ذلك فى إبداع فنى راق جليل مثَّل واحدًا من إبداعاتنا التى لا تنسى.. ما أجملها ليلة، وما أحلاها فى معناها ومبناها، وفى قيمة المناسبة وعظمة صاحبها (صلى الله عليه وسلم).
(وللحديث بقية)
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا