x قد يعجبك أيضا

الأغلبية الصامتة

السبت 6 سبتمبر 2025 - 7:15 م

فرنسا تقترب من أزمة جديدة على غرار تلك التى نشبت عام 2018 مع ظهور حركة «السترات الصفراء». هذه المرة من يدعو إلى الإضراب العام والعصيان المدنى واتباع نهج المقاومة البناءة وفلسفة اللاعنف على طريقة غاندى هى مجموعة أطلقت على نفسها (Les essentiels) أى «الأصليون أو الأساسيون». نشر أعضاؤها فيديو على التيك توك فى نهاية شهر يوليو الماضى ولاقى صدى كبيرا، كما أنشأوا قناة على تطبيق تيليجرام دعوا من خلالها إلى إصابة البلاد بشلل تام والخروج إلى الشارع يوم 10 سبتمبر المقبل للتعبير عن رفضهم لأداء الحكومة الحالية. وكان رئيس الوزراء، فرانسوا بايرو، قد ألقى خطابا أعلن فيه عن إجراءات تقشفية وتوفير 44 مليار يورو من الميزانية لارتفاع الدين العام، ما جعل قادة المعارضة يطالبون بسحب الثقة فى الحكومة والاستعداد لانتخابات مبكرة.


• • •
لفت انتباهى فى كلمات أصحاب الدعوة إلى «الإغلاق الشامل» استخدامهم لمصطلح «الأغلبية الصامتة»، قائلين إنهم يسعون لأن يكونوا صوت هذا الجمهور الذى لا يخاطبه أحد والذى فاض به الكيل. توقفت عند هذا المصطلح السياسى الاجتماعى الذى أشرنا إليه مجازا فى مصر «بحزب الكنبة» خلال 2011 وما تلاها، وقد كان الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون هو أول من تحدث عن «الأغلبية الصامتة» فى خطابٍ متلفز فى نوفمبر 1969 حاول من خلاله استمالة جزء من الشعب لتأييد موقفه من حرب فيتنام. ثم ردده الرئيس الفرنسى جورج بومبيدو بعد حوالى العام فى مايو 1970 حين طلب إلى القوى المضادة للثورة مساعدته من أجل عودة الاستقرار والقضاء على الاحتجاجات وتحدى مشكلاته مع النقابات. استوقفنى اختلاف الإطار الذى استُخدِمت فيه «الأغلبية الصامتة» هذه المرة على يد جماعة «الأصليون»، ففى السابق كانت تبدو وكأنها طوق نجاة للسلطة التى تحاول تقسيم الناس إلى «قلة مندسة» و«أغلبية صامتة» و«دوائر اتخاذ القرار»، إلى أشرار وأخيار، ضحايا ومشاغبين ومحرضين أو ما غير ذلك من تصنيفات تسمح لمن هم فى سدة الحكم أن يصلوا إلى ما يريدون باستقطاب هذه الفئة أو تلك، بل والتكلم باسمها أحيانا. وهم بالطبع على قناعة أن الأقلية الفاعلة هى من تقرر للأغلبية، ويظل السؤال المطروح دوما هو: كيف للأغلبية المسالمة أن تحقق ما تريد أو ترفض ما تراه غير مناسب؟


• • •
أتأمل أدبيات الصخب والصمت فى السياسة، فهذا الأخير ممكن أن يصير وسيلة للمقاومة أو يعكس رغبة فى الانطواء على الذات، وقد يكون صمتا عقابيا أو تعبيرا عن فقد الأمل والاشئمزاز، فمبدأ «السكوت علامة الرضا» لا ينطبق بالضرورة على جميع السياقات. وتاريخيا، فُرِض الصمت على الشعوب المهزومة والأقليات المهمشة والجماعات المحظورة، لكن فى بعض الأحيان انقلبت الآية ودوى صوت هؤلاء عاليا وغيروا موقعهم فانتقلوا من معسكر السكوت وانضموا لحركات شعبية بعيدا عن الدوائر التقليدية للنقابات، وهو ما يحاول فعله «الأصليون» مع استخدام التطبيقات والوسائط الإلكترونية.
الإنترنت وتحديدا الشبكات الاجتماعية تحوى نوعا آخر من الصامتين، هؤلاء الذين يلقبهم الباحثون بالمتلصصين أو المتخفين أو المتجسسين. يتابعون غيرهم دون أن يتركوا أثرا وراءهم. يجدون متعة فى اختلاس النظر ومراقبة ما يجرى حولهم فى هدوء تام. يقرأون ما تكتب على صفحتك ومن خلال تدويناتك دون تفاعل. يضحكون على تعليقاتك دون أن تدرى ودون أن يشاركوا النكات. لديهم أسبابهم من غير شك فى التزام الصمت، ربما لضيق الوقت أو عدم رغبة فى الظهور أو عدم احتياجهم لشكل من أشكال الاعتراف، فهم مشهورون أو متحققون بما يكفى ولا يريدون كشف المستور وتحديد هويتهم، أو يخشون الرقابة. من الصعب بالطبع تحديد حجم هذه الكتلة الصامتة، لكننا جميعا نعلم بوجودها وننتمى إليها أحيانا، وقد انتبه الباحثون أخيرا لقيمتها ودورها فى نشر الأفكار خاصة بالانتقال من منطقة التلصص على النت إلى دوائرهم الشخصية وفى محيطهم على أرض الواقع، بعيدا عن العالم الافتراضى، بل يمكن اعتبارهم جبهة مناهضة تعتنق أحيانًا أفكارًا مغايرة عن التى تسود الرأى العام على الشبكات الاجتماعية، وبالتالى يفضلون الصمت، حتى ولو إلى حين.
هم يشكلون بالفعل «أغلبية صامتة»، إذ أثبتت دراسة دكتوراه حديثة أن نسبتهم تتراوح بين 50 و90 فى مائة من أعضاء كل شبكة اجتماعية على حدة، وأنهم أقل على الفيسبوك مقارنة بغيره من التطبيقات، بمعدل واحد إلى خمسة من المستخدمين. هؤلاء إضافة إلى من يشاركونهم الصمت فى أرض الواقع بمقدورهم تغيير المعادلة، فلا أحد يعلم ما هو قادم فى مثل هذا العالم المجنون الذى يفاجئنا كل يوم بجديد.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة