عرفتُ الكاتب الراحل الدكتور عصام الشمّاع فى مرحلتين زمنيتين بينهما سنوات طويلة؛ المرة الأولى فى مطلع التسعينيات من القرن العشرين، عندما التقيته كصحفى ليتحدث عن ظروف كتابة فيلمه البديع طالع النخل، والمرة الثانية عندما تزاملنا فى لجنة تحكيم سينمائية، وبدأت بعدها صداقة عميقة أعتز بها. وفى كل الأزمنة والعصور، كان الشمّاع من ألطف الشخصيات التى التقيتها، ومن أكثرها ثقافة واهتمامًا بالشأن الوطنى.تابعت دائمًا أعماله الفنية كاتبًا ومخرجًا، لأنه كان يقدم زوايا مختلفة للرؤية. وما زالت أفلام مثل طالع النخل، وكابوريا، والأراجوز، تثير الاهتمام والتحليل حتى اليوم. وفى سنواته الأخيرة كان يحدثنى عن تفرغه لمشروع كتاب ضخم عن المذاهب الفلسفية، ولذلك لم أستغرب أن تكون مسرحية يوم قام سقراط، الصادرة عن دار ديوان، هى آخر ما كتب.قدّم الشمّاع فى الثمانينيات مسرحية بعنوان شيبوب، وهذه مسرحيته الثانية التى أسرتنى بنضجها وقوة بنائها، وقبل كل ذلك، بوعى عصام الشمّاع بأنه لا يستدعى محاكمة سقراط وإعدامه بتجرّع السم من أجل الماضى، ولكن من أجل الحاضر والمستقبل، ولكى يقول أشياء مهمة للغاية عن التمسك بالمبدأ، وعن الإيمان بالفضيلة، وعن الشجاعة فى مواجهة المجتمع، ولكى يعيد تعريف الكثير من المصطلحات والمفاهيم. وكلها عناصر قادمة مباشرة من وقائع إعدام الفيلسوف العظيم، وليست مفروضة على الحكاية.لمستْ المسرحية عندى أوتارًا شخصية، فقد كان أبى، مدرّس الفلسفة، شديد الإعجاب بسقراط، ويحكى عنه طوال الوقت، حتى ظننت فى طفولتى أن سقراط هذا قريبنا أو صاحب منزلنا! ومبدأ سقراط اعرف نفسك بنفسك، وحديثه عن المعرفة باعتبارها عين الفضيلة، ومنهجه فى التهكم والتوليد، وحتى مشاكساته مع زوجته، كلها سرديات محفورة فى ذاكرة الطفولة والصبا.يبدو لى أن سقراط فى حياته وموته كان شخصية درامية تراجيدية نموذجية، نبيلاً لا يتراجع ولا يتردد فى المواجهة، بل إنه يمثل الدراما القوية التى أحب، والتى تضع الفرد الأعزل فى مواجهة السلطة والجماعة، والمبدأ فى مواجهة القوة. وقد استُلهم موت سقراط من قبل كما فى مسرحية منصور الرحبانى الغنائية الشهيرة آخر أيام سقراط.عند الشمّاع أيضًا يظهر سقراط كبطل تراجيدى، عجوز فى السبعين، يرد بالحجة على اتهاماتٍ بتضليل شباب أثينا، والتشكيك فى الآلهة، والسخرية من الديمقراطية وممثليها، بينما هو يريد «تنزيه» الآلهة عن الخرافة، ويكاد يؤمن بإله واحد. وهو ليس ضد الديمقراطية، وإنما ضد «الشعبوية الجاهلة» التى تظلم وتحكم من دون وعى.هو، فوق ذلك، يريد ما هو أخطر: أن يجعل المعرفة والفضيلة معيارين أساسيين؛ أى إنه يريد إعلان مملكتى الضمير والمعرفة كميزان للحكم. وكلها أفكار تطرح أسئلة مؤرقة أمس واليوم وغدًا.ثورة سقراط فكرية بالأساس، وفى المسرحية نراه مجادلًا ذكيًا وعميقًا، ولكنه ليس منفصلًا عن واقعه، ظل مسكونًا دومًا بفكرة أداء الواجب. لا يمكن المزايدة عليه فى الشجاعة، فقد اشترك فى الحرب دفاعًا عن أثينا، وواجه السادة ودعاة الديكتاتورية، ولكن فى داخله صوتا يدفعه لأداء رسالته. وما يحيّر تلامذته، وعلى رأسهم أفلاطون، أن المعلم العظيم يستفز هيئة المحكمة، ويدفعها دفعًا إلى إصدار الحكم بإعدامه، بل ويرفض أن يدافع عنه المدعى العام.فى مرحلة تالية، سيرفض سقراط فكرة تهريبه من السجن، وسيرفض استعطاف زوجته زانثيب له، إذ تبدو أكثر عاطفية، لأنها امرأة وحيدة بلا حول ولا قوة، ستتعرض مع أطفال سقراط للجوع إذا تم إعدامه.يتوقف النص طويلًا عند أسباب رفض سقراط للهرب، وإصراره على تنفيذ الحكم. ويتهمه تلاميذه بالانتحار، ويفسر أحدهم ذلك بأن سقراط تخلّص من شهوة الجسد، لكنه أسير شهوة النفس؛ بأن يذهب بنفسه إلى الآلهة. بل ويقول التلميذ إن «إله سقراط هو سقراط نفسه».هنا ذروة جديدة فى الصراع تفكك معانى البطولة والشجاعة، وتستخدم منهج سقراط نفسه فى التهكم والتوليد. ورغم أن سقراط لن يحدد سببًا قاطعًا لتمسكه بهذه النهاية، فإننا نفهم أن تركيبته ترفض الهروب، كما أن سنّه ومعاناته تدفعانه للتخلص من أثقال الحياة، بالإضافة إلى أن سقراط قد وُسم من قِبَل مَن حاكموه بوصمة أبدية، وهو انتقام مروّع حقًا، رغم أنه دفع حياته ثمنًا لذلك.يبدو عصام الشمّاع كاتبًا مسرحيًا ناضجًا، سواء فى اختيار مواقفه الدرامية، أو رسم شخصياته الكثيرة، أو فى ضبط الصراع من أول النص حتى نهايته، أو فى حواراته الذكية للغاية، وإن كان من الأفضل أن تختصر الحوارات الطويلة فى الفصل الثانى.تظهر كذلك ثقافة الشمّاع الفلسفية العميقة، وقدرته الممتازة على تبسيط الاتجاهات الفلسفية عند تلاميذ سقراط، سواء من أتباع فيثاغورث أو من أنصار المدرسة الكلبية. كما أن الشمّاع، الذى مارس الطب النفسى، يركز ببراعة على العواطف والدوافع والصراع داخل الشخصيات.ربما يتيح النص، الذى أتمنى أن يُعرَض على أحد مسارحنا، فرصة توظيف الأغانى والموسيقى، وعناصر الفرجة المسرحية المختلفة: ديكورًا وأزياءً وإضاءةً. بل لعله يُلهم مخرجًا أريبًا بأن يقدم معادلًا بصريًا لهذا الجدل الفكرى المستمر، وقد يمنح الممثلين، خاصة من سيلعب دور سقراط، ومن ستلعب دور زوجته زانثيب، فرصة هائلة لإبراز موهبتهما، سواء عبر الحوارات أو عبر بعض المونولوجات القوية والمعبّرة.أعود من جديد للتأكيد على أن هذه المسرحية معاصرة تمامًا، تتحدث عن أسئلة اليوم، وأنّ قيامة سقراط من مرقده التاريخى سببها أن حكايته تتكرر الآن بتنويعاتٍ مختلفة، وأن الذين يحاكموننا باسم الدفاع عن الدين ما زالوا يعدمون ويقتلون أىّ سقراط مفكر. ما زال الصراع قائمًا بين أصحاب التدين الشكلى وبين من يبحثون عن الجوهر والمعنى، بين دعاة القشور وبناة الضمائر والقلوب.لم يهرب عصام الشمّاع إلى التاريخ، ولكنه قال لنا إننا لو لم نستفد من الماضى، سيكون مصيرنا مفجعًا، مثلما حدث لحكيم أثينا وفيلسوف الإنسانية المغدور.
مقالات اليوم حسن المستكاوي الجمهور والإعلام ماذا يريدون من منتخب إنجلترا؟ عبد الله السناوي السؤال الصيني في عالم مضطرب! عماد الدين حسين فهلوة نتنياهو.. تذكرة سفر بلا عودة!!! مصطفى كامل السيد الرأي العام بين العلم والسياسة سمير عمر نتنياهو والتقدّم على الطريق المسدود ياسمين الشاذلي عن الضرورة الوجودية للعلوم الإنسانية صحافة عربية لماذا قناع الضاحك الباكي؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك