تراث صناعة السكر فى مصر.. حين كانت مصر دولة رائدة

الخميس 4 ديسمبر 2025 - 9:44 ص

عزيزي القارئ.. على غير المعتاد فى كتابة المقالات فى مصر سآخذك فى سياحة عبر المكان والزمان. لكن دعنا نقر أولا بأننا لا نعرف الكثير عن تاريخ الصناعة فى مصر، ولا ما ابتكره المصريون في مجالات صناعية عديدة، بل قد تتفاجأ بأن مصر صنعت أول عربة سكة حديد عام 1898م، لكنك معى ستذهب إلى ما هو أبعد، ففى العصر المملوكي كانت مصر أكبر منتج للسكر فى العالم، وهو من السلع التى كانت تصدرها إلى جيرانها سواء الشماليين كالأوروبيين أو فى الغرب منا أو إلى الشرق.

مطابخ السكر

كانت معاصر السكر تنتشر فى مصر فى العصر المملوكي، وكان السكر المصرى يصدر إلى أوروبا لجودته. وكانت مطابخ السكر (كما كانت تسمى مصانعه) تدار-فى أغلب الأحيان- بقوة الأبقار، والبعض الآخر بقوة اندفاع المياه، ووجد هذا النوع فى الفيوم؛ لتوافر مساقط المياه التى يتميز بها ذلك الإقليم، وكانت المياه المندفعة من المعصرة بعد تشغيلها، تُستغل فى زراعة الأراضى المجاورة لها، وقد بلغ عدد المعاصر فى الفيوم التى تُدار بتلك الطريقة ست معاصر.

تعد صناعة السكر مكملة لصناعة عسل القصب (العسل الأسود) و(القند)، ويبدأ طبخ السكر من حيث تنتهى آخر مرحلة من مراحل العصر، وتتم المرحلة الأولى بدار القصب وتُعرف بـ(الإصلاح والتطهير)، وفيها تنظف أعواد القصب بعد نقلها من الحقول، مع استبعاد التالف منها وغير الصالح للعصر.

وفى المرحلة الثانية، يتم تقطيع القصب إلى قطع صغيرة متساوية نسبيًا. وفى المرحلة الثالثة، يقوم (التخات) بنقل القصب إلى المعاصر، حيث يتم عصر القصب بواسطة معصرتين كبيرتين، إحداهما حجرية والأخرى خشبية.

وفى المرحلة الرابعة، تتم تصفية العصارة السابقة من الشوائب وتجميعها فى مكان واحد، لتتم تصفيتها أكثر من مرة لضمان نقاء العصير. وفى المرحلة الخامسة، يتم طبخ عصير القصب، حيث يوضع على النار حتى يغلي غليانًا كثيرًا وينقص العصير نقصًا معلومًا - أى يصير القوام ثقيلًا - ويتحول إلى سائل يعرف بالمحلب، فعند ذلك تطفأ النار، ثم ينقل العصير إلى «بيت القصب»، حيث تجمع العصارة الرقيقة التى تعرف بالعسل المقطر، وأما العصير المجمد فيعرف بالقند. وعند انتهاء عملية العصر، تبدأ عملية تحويله إلى سكر، وإذا جف القند (عسل القصب) ووصل إلى حد البياض ينقل إلى مطابخ السكر، فيحل بالماء وشىء من اللبن الحليب، ويطبخ فيصير منه السكر البياض، ومنه ما يكرر فيصير فى أشد البياض والنقاء.

وهنا، لا بد من ذكر أن أنواع السكر تعددت فى مصر، كما تعددت درجات جودته، إلى درجة أن الأوروبيين كانوا يقبلون على السكر المصرى، خاصة المنتج فى مدينة فوه فى العصر المملوكى.

عصر إسماعيل

 

شيد الخديو إسماعيل عدة مصانع فى صعيد مصر لصناعة السكر، كان هدفه تعويض الاضطراب الذى حدث فى سوق القطن الذى شهد ارتفاعًا مع الحرب الاستقلال الأمريكية، ثم مع انتهاء الحرب نزل سعر القطن المصرى بشدة، ما أثر على الاقتصاد المصرى، استدان إسماعيل لكى ينشئ هذه المصانع، وجلبت لمصر أصناف عالية الجودة من قصب السكر، نشأت هذه الصناعة التى استخدمت أحدث الماكينات التى تدار بقوة البخار، بلغ إنتاج مصر من الإنتاج العالمى للسكر 7.5% من الإنتاج العالمى، كان هذا محور دراسة نشرها المؤرخ عمرو خيرى فى دورية كامبردج، مثيرًا خلال الدراسة طبيعة العمالة التى عملت فى هذه الصناعة، ملك إسماعيل لنفسه مئتى ألف فدان، وهى التى زرع بها قصب السكر، وارتبطت بها هذه المصانع، كانت عمليات قطع قصب السكر تبدأ من ديسمبر إلى مايو من كل عام، وهو ما استلزم طاقة بشرية ثم خطوط سكة حديد لنقل القصب للمصانع.

تاريخ الصناعة.. تساؤلات

على الرغم من بعثات محمد على إلى أوروبا كانت بهدف خدمة مشروعه الشخصى فى تنمية موارد مصر، فإن هذه البعثات قادت مصر إلى تقدم حقيقى، بل إلى توطين عدد من الحرف فقد كان مسبك بولاق الذى أداره جالواى المهندس البريطانى، سببًا فى تقدم صناعة الحديد فى مصر، وفى هذا المصنع عمل 50 عاملًا مصريًا، وقد كانت به 8 أفران، وكان ينتج خمسين قنطارًا من الحديد المصهور يوميًا، وينتج الآلات والتروس للمصانع، وأنوال الغزل حتى الآلات التى تدور بالبخار.

إن تنوع البعثات التى دفع بها محمد على إلى إيطاليا وفرنسا والنمسا وبريطانيا، تكشف عن سياسة راسخة لنقل خبرات صناعية مختلفة، فقد أُرسل محمد عنانى لتعلم صناعة الآلات الجراحية، ومحمد حاكم وإبراهيم الدسوقى لتعلم صناعة الساعات، وما زالت بعض الساعات التى صنعوها محفوظة فى مساجد مدينة فوه.

هذا كله يجعلنا نفكر بدقة: هل كُتب تاريخ مصر، خاصة تاريخ الصناعة المصرية؟ فى حقيقة الأمر لا، علينا أن نراجع هذا التاريخ ونعيد قراءته من جديد.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة