سيدة «المونودراما الغنائية»

السبت 1 مارس 2025 - 7:15 م

 استضافتنا مؤخرًا مجموعة بيت الحكمة للثقافة، فى ندوة فنية حول «أم كلثوم والسينما»، أدارها ببراعة الصديق مصطفى الطيب، وغرّد فيها بأغنياتٍ مختارة من تراث ثومة الفخيم، الموسيقار وعازف العود العراقى الفذ يوسف عباس، وتحدثتُ فيها تفصيلًا عن رؤيتى الخاصة لأم كلثوم كسيدة لما أطلقتُ عليه «فن المونودراما الغنائية».
ظهرت أم كلثوم فى السينما صوتًا وصورةً وتمثيلًا فى ستة أفلام فقط، بدأت بفيلم «وداد» فى العام 1936، وانتهت بفيلم «فاطمة» فى العام 1947، وتطوّر أداؤها كثيرًا، بحيث يمكن القول إن فيلمى «سلاّمة» للمخرج توجو مزراحى، و«فاطمة» للمخرج أحمد بدرخان هما الأفضل فنيا، حتى فيما يتعلق بمفهوم «الأغنية السينمائية».
ورغم الفشل الذى حققه فيلمها الطموح «عايدة»، فإن الأفلام الستة حفظت لنا غناء كلثوميّا بديعًا، مثلما حفظت لنا أداء تمثيليّا لأساتذة النهضة المسرحية فى تلك الفترة، وقدمت لنا الأفلام بطلات لا يختلفن كثيرًا عن شخصية أم كلثوم نفسها، بل لعل انشطار تلك الأفلام بين عالم الجوارى فى ثلاثة أفلام؛ هى: «وداد»، و«دنانير»، و«سلاّمة»، وعالم المرأة المصرية المعاصرة فى ثلاثة أفلام؛ هى: «منّيت شبابى.. قصة نشيد الأمل»، و«عايدة»، و«فاطمة»، إنما هى مجاز بديع غير مقصود لرحلة ثومة من المحافظة إلى العصرية، ومن كونها «ست» ريفية عادية إلى اعتبارها «الستّ» بالألف واللام، وكأنها عنوان على جنس المرأة عمومًا.
وحتى فى أفلام الجوارى، كانت ثومة تعبِّر عن شخصية قوية، فتقول للسادة: «سلامُ الله على الأغنام»، تمامًا مثلما تغنى فى فيلم «فاطمة» العصرى، المأخوذ عن قصة حقيقية، أغنيتها الشهيرة «أصون كرامتى من قبل حبى»، ثم تمد الخط إلى آخره، فتقول فى غنائها على المسرح: «حب إيه اللى انت جاى تقول عليه؟»، و«دارت الأيام عليك»، و«للصبر حدود»، و«اسأل روحك قبل ما تسأل إيه غيّرنى».
فكرتى المحورية هى أن قدرة ثومة على أداء «مونودراما غنائية كاملة»، بصوتها وبتعبير الوجه وحركة الجسد، هو سر عظمتها، وليس فقط قوة الصوت أو القدرة على التطريب.
السرّ فى «تطويع» هذه القوة والقدرة لصالح «التعبير»، وبمؤشر واسع ومذهل، من أغلظ صوت نسائى، إلى أرق صوت أنثوى، وباستدعاء كامل لإمكانيات التشخيص والتقمص فى أغنياتها الفردية، تجاوبا مع الجمهور، وبما يتفوق بمراحل على أدائها المنضبط والمحكوم فى الأفلام بلقطات منفصلة.
يقول السنباطى عن صوت منيرة المهدية إنه كان يشبه السيارة المنطلقة بقوة، ولكن «بدون فرامل»، بينما نكتشف بوضوح - من تحليل أداء ثومة التعبيرى فى غنائها الفردى - أنها سيطرت تمامًا على صوتها الخارق، وأعادت «تشكيله» فى كل أغنية فردية لصالح التعبير، دون أن تترك التطريب فى شكل ارتجالاتٍ محددة.
يمكن أن تطبق حرفيّا مفاهيم أداء «فن التشخيص» على تلك الأغانى، مع التركيز أولًا على الصوت، فلا يمكن أن تصدِّق أن هذا الصوت الهادر الغاضب الذى يهتف بكلمتى «فات المعاد» فى أغنية درامية مذهلة، هو نفسه الصوت الأنثوى الذى يختزن دلالًا مستترًا، وهو يغنى كلمتى «أحبك انت» بعد عبارة «وان كنت أقدر أحب تانى».
لا تظهر عناصر هذا التشخيص بتمامها فى التصوير التليفزيونى لحفلات الست، لأنه يعمل بالأساس على اللقطة البعيدة (لونج شوت)، وأقصى ما يحققه أحيانًا اللقطة البعيدة المتوسطة.
أتاح ذلك أن نقرأ لغة جسد ثومة، وربما تأخذ بالك لو دقَّقتَ من ضبط ثومة للأداء كله بحركة القدم اليمنى عندما تشعر بالإيقاع، ولكن العنصرين الأهم فى هذه المونودراما غائبان تمامًا، وهما العينان والوجه، وهذا لا يتأتى إلا بحجمين محظورين، هما اللقطة القريبة، واللقطة القريبة الكبيرة؛ أى «الكلوز أب» و«البيج كلوز أب»، وربما كان الحظر من الست نفسها، بسبب جحوظ عينيها نتيجة مرض الغدة الدرقية.
يمكن أن تقارن المعادل البصرى الفقير لهذه «المونودراما الكلثومية»، بمونودراما صوت عظيم آخر هو عبد الحليم، الذى لم يكن يمانع فى كلوزات أغنية «موعود» الشهيرة، بل لعله هو من طلبها من مخرج الحفلة، بينما نفتقد ذلك مثلا فى حفلة ثومة، وهى تشرخ صوتها أثناء جملة «بيريّحنى بكايا ساعات». أراهن أن عينيها لمعت بالدموع وقتها، ولكننا لم نرَ ذلك على الشاشة.
الصعوبة هنا أن ثومة صوت قوى جدًا، فكيف إذن طوّعته للرقة والتعبير؟ كيف لصوت الرعد أن يحاكى خرير الماء مستدعيًا ذاكرة العواطف ومخترقًا حاجز السن؟ كيف يمكن أن تشخّص ثومة، صوتًا وأداء، إحساس عاشقة فى العشرين، وهى تغنى «يا مسهرنى»، بينما كانت قد تجاوزت وقتها سن السبعين؟!
الطرب لا يشترط إلا الاستعراض الصوتى، بينما الأداء الدرامى يشترط الفهم والإحساس والمطابقة بين المعنى والتعبير، وعلى قدر المطلوب بالضبط، ثم ضرورة انعكاس ذلك على الوجه ولغة الجسد، وهذا ما كانت تفعله ثومة ببراعة فطرية ومصقولة معًا، حتى قال عبد الوهاب إنه لم تجتمع فى صوت مغنية أخرى هذه القدرة على التعبير عن القوة والضعف معا.
حققت «المونودراما الكلثومية» فى حفلاتها أقصى ما يطمح إليه أى مشخصاتى كبير، وهو ترجمة عناصر «التقمص» و«المحاكاة» و«الإيهام»، وبدلًا من الحوار التمثيلى، عزفت بالأساس على صوتها الأسطورى، وأذابت الحد الفاصل بين الطرب والتعبير، وحلّقت بالجمهور إلى ألوان وأشكال من الانفعالات، بين شك وخوف وسعادة وألم وغضب، وأحيانًا فى نفس المقطع، ثم تحكّمت فى عنصر أساسى فى أداء الممثل وهو الإيقاع، رغم أنها تعمل فى ظروف أصعب، لأنها تعيد نفس المقطع، بل وتقدم فاصلًا طربيّا مرتجلًا أحيانًا.
ورغم ذلك، كانت تعود بقوةٍ واقتدار إلى «الشخصية الدرامية» التى تلعبها وفق هذه الأغنية بالذات، تستدعى «المود» المناسب قوة وضعفًا، وتُخرج من داخلها المرأة القوية أو الأنثى المتدللة، كيفما شاءت، ووقتما شاءت.
لا تقل إذن: «المطربة أم كلثوم»، ولكن قل: «سيدة المونودراما الغنائية».

 

 

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة