يحل فى شهر مارس ذكرى مرور عشر سنوات على توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين مصر والسودان وإثيوبيا بخصوص سد النهضة، والذى وقع فى 23 مارس عام 2015. منذ ذلك التاريخ حدثت العديد من المحاولات للوصول لاتفاق ملزم بين الدول الثلاث ينص على قواعد واضحة وملزمة لتشغيل سد النهضة الإثيوبى. إلا أن كل هذه المحاولات تحطمت على صخرة الرفض الإثيوبى للوصول لاتفاق ملزم وتحركها الأحادى لملء بحيرة السد والانتهاء من إنشائه.
نحاول فى هذا المقال إلقاء الضوء على موقف الدول الثلاث، واستشراف مستقبل الخلاف.
• • •
فى أقرب محاولة للوصول لاتفاق عام 2020 طرحت كل من البلدان الثلاثة فى المفاوضات مسودتها للاتفاق حول قواعد تشغيل السد. اتفقت المسودات على بعض النقاط واختلفت اختلافا شديدا فى نقاط أخرى.
اتفق الثلاث دول على، أولًا: أن هذا الاتفاق لا يعتبر اتفاقا لتقسيم مياه النيل الأزرق بل هو مجرد اتفاق على ملء وتشغيل سد النهضة فقط. إلا أن إثيوبيا أضافت فى مسودتها فقرة زائدة على هذا المبدأ تقول: «ولا أن يعتبر هذا الاتفاق محددًا لحد الضرر الجسيم». وهى إضافة تقصد بها ألا تلتزم فى هذا الاتفاق بأن الكميات التى سيتم الاتفاق على تصريفها من سد النهضة هى الحد الأدنى الذى إن قلت عنه سيتسبب فى ضرر جسيم لمصر والسودان. الهدف من هذا أن تكون يدها مطلقة فى إنشاء سدود مستقبلية أعلى سد النهضة، والتى ستقلل بالضرورة من تصرفات المياه فى النيل الأزرق.
ثانيًا: إن تعريف الجفاف هو أن يكون متوسط التصرف عند سد النهضة أقل من 37 مليار متر مكعب فى سنة هيدرولوجية (متوسط تدفق مياه النيل الأزرق هو 49 مليار متر مكعب). وأن الجفاف الممتد هو أن يمر أربع سنوات متتالية بمتوسط تصرف أقل من 37 مليار متر مكعب. إلا أنهم اختلفوا فى ماهية الإجراءات الواجب اتخاذها فى حال حدوث تلك الحالتين. لم تعترف إثيوبيا بحالة ثالثة وهى حالة «السنوات الجافة الطويلة»، والتى تعرفها المسودتان المصرية والسودانية بأنها مرور أربع سنوات متتالية متوسط التدفق فيها أقل من 40 مليار متر مكعب.
كذلك اتفق الأطراف على توقيت ملء خزان السد وعلى خطة الملء الأول على مدى خمس سنوات، حيث تم إقرار أن الملء يجب أن يكون فى الفترات المطيرة بين يوليو وسبتمبر. وهو ما نفذته إثيوبيا من طرف واحد فى الخمس سنوات الماضية.
• • •
على الجانب الآخر كانت هوة الخلافات واسعة فى أكثر من نقطة. فعلى الجانب الفنى كان الخلاف الأكبر هو قواعد تشغيل السد فى حالات الجفاف المختلفة:
1- فى حالة الجفاف: تتضمن المسودة المصرية والسودانية (باختلافات طفيفة) جدولًا يضمن أن يتم تصريف أكبر كمية ممكنة من المياه لمصر والسودان. وتعتمد الكمية على مقدار تدفق النهر ومستوى بحيرة السد فى هذه السنة على ألا يقل مستوى البحيرة فى كل الأحوال عن مستوى 603 أمتار لضمان استمرار تشغيل توربينات السد بقدرة 80% من قدرتها الكلية.
على الجانب الآخر تتضمن المسودة الإثيوبية جدولًا مختلفًا لا يتضمن الكميات المتصرفة من المياه خلف السد بل يتضمن مستوى البحيرة الذى سينهى عليه السنة المائية حسب تدفق المياه فى تلك السنة. مع الحفاظ على ألا يقل مستوى البحيرة فى أى حال من الأحوال عن 610 أمتار (أى بتخزين 30 مليار متر مكعب). وهو ما سيشكل نقصًا واضحًا فى موارد مصر والسودان فى سنوات الجفاف.
2- فى حالة الجفاف الممتد: تختلف المسودات الثلاثة على الإجراء المفترض عمله. وهو أكبر نقاط الخلاف بين الأطراف الثلاثة:
المسودة المصرية: يتم تصريف 100% من مخزون البحيرة أعلى مستوى 603 أمتار على مدى أربع سنوات تالية.
المسودة الإثيوبية: بالإضافة للتصريف المذكور فى حالة الجفاف (وفقًا للجدول الإثيوبى) تجتمع اللجنة الفنية على إجراءات لإدارة الجفاف بما فيها تصريف كميات إضافية فى حالة أن مستوى بحيرة السد أعلى من 610 أمتار.
المسودة السودانية: بالإضافة للتصريف المذكور فى حالة الجفاف (وفقًا للجدول المصرى السودانى) تجتمع اللجنة الفنية على إجراءات لإدارة الجفاف بما فيها تصريف كميات إضافية فى حالة أن مستوى بحيرة السد أعلى من 605 أمتار.
هنا نرى الهوة واضحة بين الأطراف إذ إن إثيوبيا ترفض وضع رقم محدد للتصريف فى حالة الجفاف الممتد، وتتركها للجنة الفنية دون ضمانات على وصول هذه اللجنة لاتفاق من عدمه. كما أنها تحد من الكميات الممكن إضافتها فى حالة الجفاف الممتد لتمسكها بمستوى 610 أمتار للبحيرة رغم أن مستوى 603 أو 605 يعتبر كافيًا لتشغيل التوربينات بقدرة تصل إلى 80%.
3- فى حالة السنوات الجافة الطويلة: وهى التى تحددها مصر بمرور خمس سنوات متتالية بمتوسط تصريف أقل من 40 مليار متر مكعب وتحددها السودان بمتوسط تصريف فى نطاق بين 38 و40 مليار متر مكعب.
المسودة المصرية: يتم تصريف 100% من مخزون البحيرة أعلى مستوى 603 أمتار على مدى أربع سنوات تالية.
المسودة السودانية: بالإضافة إلى التصريف المذكور فى حالة الجفاف (وفقًا للجدول المصرى السودانى) تجتمع اللجنة الفنية على إجراءات لإدارة الجفاف بما فيها تصريف كميات إضافية فى حالة أن مستوى بحيرة السد أعلى من 605 أمتار.
بينما ترفض إثيوبيا إقرار مبدأ السنوات الجافة الطويلة.
• • •
أما على الجانب القانونى فكان الخلاف الأول بين الأطراف على طبيعة الاتفاق، فمسودتا مصر والسودان تطلق عليه «الاتفاق على المبادئ التوجيهية»، بينما تحذف إثيوبيا من العنوان كلمة (الاتفاق). يعكس ذلك موقف إثيوبيا من أن هذا الاتفاق لا يجب أن يكون ملزمًا لها وإنما مجرد مبادئ توجيهية قد تتغير فيما بعد بإرادتها المنفردة بحكم أنها مالك السد أو على أقصى تقدير تخضع للتشاور لاحقًا بين الدول الثلاث. وهو الموقف الذى تتخذه كذلك من اتفاق إعلان المبادئ الذى وقع فى عام 2015، حيث تراه إثيوبيا إعلان مبادئ غير ملزم، وبالتالى لا يلزمها بإجراء اتفاق مع مصر والسودان.
• • •
ثانى الاختلافات هو تضمين إثيوبيا فى المادة الرابعة من مسودتها تحت عنوان «نطاق المبادئ التوجيهية والقواعد» عدم اعتبار هذا الاتفاق اعترافًا من إثيوبيا بتقسيم المياه القائم حاليًا بين مصر والسودان أى اتفاق 1959. بينما تعتبر مصر والسودان أن لا علاقة بين الأمرين، فهذا الاتفاق يتعلق فقط بتشغيل سد النهضة. كذلك ضمنت إثيوبيا هذه المادة بندا بحقها فى إجراء التعديلات اللازمة على هذه القواعد بما يمكنها من إنشاء أعمال أخرى أعلى النهر. وهو ما يصب فى نفس المبدأ السابق، وهو أنها تعتبر هذا الاتفاق مجرد مبادئ توجيهية غير ملزمة.
• • •
ثالث الاختلافات كان على الموقف من الإنشاءات الأخرى على النهر، فإثيوبيا تخطط لإنشاء ثلاثة سدود أخرى أعلى سد النهضة. ولهذا فإن المسودة المصرية فى مادتها العاشرة تنص على أن الإنشاءات المستقبلية أعلى النهر يمكن إجراؤها دون المساس بهذا الاتفاق وفقا لمبادئ القانون الدولى بما فيه الحق فى الاستخدام المتساوى والمعقول دون التسبب بضرر جسيم. وهو البند الذى رفضته إثيوبيا رفضًا باتًا. ولهذا حاولت السودان فى مسودتها الوصول لحل وسط، حيث أعادت صياغة هذا البند بحيث يصبح هذا الاتفاق لا يمس حقوق جميع الأطراف فى إنشاء أعمال أعلى أو أسفل النهر وفقا لمبادئ القانون الدولى. وهى الصياغة التى لا تضمن بصورة كافية ألا تمس السدود المستقبلية بكميات المياه الواردة لمصر والسودان.
• • •
لم تتمكن جولات المفاوضات التى حدثت من عام 2020 وحتى توقفت فى ديسمبر 2023 من ردم الهوة بين الأطراف الثلاثة، فى الوقت الذى عمدت فيه إثيوبيا إلى التحرك أحاديًا وأكملت الملء الأول لبحيرة السد فى الصيف الماضى، وبدأت فى تشغيل بعض التوربينات لإنتاج الكهرباء. ونظرًا لأن إيراد النهر كان فوق المتوسط فى السنوات الخمس الأخيرة فلم تمثل مرحلة الملء الأول مشكلة لمصر والسودان. إلا أنه ومع بدء التشغيل ومع احتمالات دخول نهر النيل على دورة مقبلة من الجفاف، كما يحدث كل فترة، فمن الوارد أن تبدى إثيوبيا تعنتًا فى تصريف المياه كونها تعطى أولوية لإنتاج الكهرباء بما يحتم الحفاظ على مخزون البحيرة عند مستوى معين. وهو التعنت الذى بدا واضحًا فى محاولات الوصول لاتفاق كما أسلفنا. وهو ما يستوجب من مصر والسودان الضغط على إثيوبيا مجددًا لوصول لاتفاق على قواعد تشغيل السد بما لا يمس مصالحهما المائية كدولتى مصب، وعدم القبول بفرض إثيوبيا للأمر الواقع.