الإبداع.. وقضية الإلهام

الأحد 9 مارس 2025 - 5:10 م

 المعروف أن عامة الناس معتادون على قياس قدراتهم العقلية والفيزيائية بما يملكه الآخرون منها.. ولذلك كانوا يعتبرون الأشياء الخاصة التى يعجزون عن تحقيقها منحًا أو معجزات، فى أن لدى كل فرد منا قدرات كامنة إذا ما دأب على التنقيب عنها.

ولذلك فإن كاستلفترو، يرى كما يرى أرسطو ومن بعده هوراس، أن المبدع هو رجل يملك قدرة إبداعية واعية «موهبة» يعرف بها جيدًا كيف يحول نفسه إلى شخص متوقد العاطفة، وكيف يختار الأقوال والأفعال التى تعبر عن هذه العاطفة، كما اعتقد العرب أنه مس من الجنون وكذلك فلاسفة اليونان أيضا، حتى إن بعضهم دعا للفرار منه كالفرار من الأجرب اعتقادا لذلك المس الذى أصابه.. يقول الدكتور لويس عوض ــ رحمه الله: «الواقع أن الأقدمين لمسوا ما بين الإبداع وما فوق الطبيعة من صلة، نرى ذلك فى أتيمولوجيا اللغات واضحًا وضوح الصباح. عد إلى اشتقاق كلمة «جنون» فى العربية، و«جينيس» فى الإنجليزية و«جينى» فى الفرنسية، ثم اكشف عن معنى «جينيوس» فى اللاتينية، ترى أن الجن فى كل حالة مسئولون عن التفوق الذهنى كما هم مسئولون عن الخبل العقلى.. اكشف عن العبقرية تراها صفة تتحقق فى كل من ركبته شياطين وادى عبقر بشبه جزيرة العرب. فإن تحدث إليك ناقد عربى عن شيطان قيس ابن الملوح فلا تصرفه هازئًا بل تدبر ما تشتمل عليه عبارته من معان جمة تهمك فى دراسة النقد، وإن قرأت فصلاً عن «مجنون» بنى عامر فلا تحسبن أن الحب وحده قد أودى بعقله، بل تذكر أنه قال شعرا أو قولته الأساطير شعرا، ثم اتجه إلى ديوانه تستفد منه فى هذا الصدد.. بالجملة لم يعرف القدماء شيئًا من العقل الباطن واللاوعى فنحلوا الشعر إلى الجن والمجانين».

ويستعمل لويس عوض نفس المراوغة فى هذا الرأى، حيث يختم مقولته بالتنحى عن صدر المقولة ويذيلها بالرجوع إلى التحليل النفسى لسبر أغوار الإبداع والمبدعون.

وقضية الإلهام قضية بدأت لدى اليونان والعرب القدامى بمناصرى فكرة لمسة الجنون وعززوها بقوة كبيرة حتى أن هوراس كان من مؤيدى هذا الاتجاه حيث قال: «إن المبدع المجنون كالأجرب، أو المريض بالصفراء، أو المجذوب، يفر منه العقلاء ويخشون المساس به، ويكايده الصبيان ويتبعونه فى غير احتياط».

إلا أن المدرسة الإسكندرية قد عالجت قضية الإلهام بأنها مجهود كبير لا أثر للوحى فيه. وقد عنيت الدراسات الحديثة بهذه القضية حيث افترض البعض أن لتغييب العقل والوعى كما نرى فى المدرسة السريالية دورها فى عملية الإبداع على سبيل المثال، وذلك لما عرف عن بعض المبدعين أنه نوع من الشطط.

لقد «نُسب قوم الإبداع إلى اللاوعى من قبل أن يصل العلم الحديث إلى نظرية اللاوعي، فبعد أن توصل العلم إليها استؤنف البحث على هذا المنهاج بسياج منيع من الدقة وسلامة التحقيق. كان تاسو وفان جوخ وكولينز وكريستوفر سمارت ووليم بيليك وادجار بو، من المجانين. عرف شيلى فى المدرسة بأنه «شيلى المجنون». كان فيدور دوستويفسكى مصابا بداء الصرع.. تهالك كوليدج على الأفيون وبودلير على الحشيش وعدد عظيم من صغار المبدعين على شراب الابسنت، وحسبك أن تقرأ سير سقراط وسافو وامرئ القيس وأبى نواس وابن الرومى ومارلو وشكسبير ونوفاليس وجيتى وفيرلين ورينبو وأوسكار وايلد وبروفسور هاوسمان لتجد أنهم لم يكونوا كعامة الناس فى حياتهم الشخصية، كما أن قارئ اعترافات روسو ليعثر على مادة صالحة فى هذا الباب، وأحسب أن رجال الفنون لو حذو حذوه متوخين أمانته وصراحته فى سرد سيرهم لارتعد ضمير المجتمع أو لبكى أو لدفن وجهه بين راحتيه».

كل ذلك يعزز من ذلك الاتجاه المقلل من قدرة الإنسان نفسه كذات قوية فاعلة، وتحيله إلى استجداء عوالم أخرى ليس لها أى دليل علمى سوى معتقدات بالية.

ولذلك وبعد عمل أبحاث ودراسات فى هذا الشأن، توصلنا أن القوة الكامنة للإبداع هى قوة ما فوق الوعي، الوعى القوى الذى أطلقنا عليه (السوبر وعى) وهو الوعى الفائق للحد هو ذلك الطريق إلى الإلهام والأبد، وهو ارتباط بين المبدع وبين ما أسموه بالعقل الكونى أما يطلق عليه «السوبر مايند» أى العقل الكونى (Super conscious mind) وهى منطقة من مناطق الوجد الصوفى، حيث اختراق كل الممكن إلى اللاممكن، الوصول إلى ممالك الإبداع بعد ذلك الصفاء الذهنى غير المحدود، والذى يمكن الوصول إلى ذلك بالقوة الروحية المستفيضة والسعى الدءوب إليها!

إنه ما يتوسط هذا الصراع فيحسمه بين الإلهام والجنون والوحى، وبين الوعى بالذات لحظة الإبداع. فيكون المبدع فى منطقة محرمة على غير المبدعين وهى منطقة ما فوق الوعى، وبالتالى يحتفظ المبدع بوعيه إلا أنه يكون بعيدًا عن الوعى البشرى المقيد بأغلال الوعى. فهو ذلك الانفلات من تلك الأغلال إلى فضاءات كونية ولكن بالوعى الأعلى خلال لحظات الاستبصار وهى تفتق الفكر بجميع مستوياته، وهو ما ينتج عنه ذلك الأنس الثقافى والمعرفى لدى المبدع، فالإلهام هو حالة إبداعية لا تتأتى للمبدع إلا حين يكون فى اتساق تام مع ذاته أولاً وقبل كل شىء، ثم اتساق ذلك النسق الثقافى وثقافة واقعه فى حالة من التواؤُم التام بين كل هذه الدوائر المعرفية فى تماس دائم وأنس معرفى من تلك الروحية المستفيضة.

ملحة عبدالله

جريدة الرياض السعودية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة