ابن القبطية - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ابن القبطية

نشر فى : الخميس 28 يناير 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : الخميس 28 يناير 2021 - 7:15 م

هذا هو المقال السابع في إطار المشروع الذي بدأتُه منذ عام تقريباً عن صورة الشخصية القبطية في الأدب المصري بعد ثورة يناير. وعلى مدار عام كامل فإن كل عمل روائي طالعته أهداني زاوية جديدة في تحليل الشخصية القبطية، أما هذه الرواية "بنت القبطية" التي كتبها وليد علاء الدين وصدرت عن الكتب خان في عام ٢٠١٦ فقد أخذتنا إلى مساحة جديدة، ونقلتنا من تشابكات العلاقة بين الأقباط والمسلمين في المجتمع المصري إلى أسئلة فلسفية أكبر تخص فرص التعايش بين الديانات السماوية الثلاث دون أن ترتبط بالواقع المصري بالضرورة. ها هي راحيل اليهودية بارعة الحسن والجمال تراود بطل الرواية يوسف حسين- المولود لأب مسلم وأم قبطية- عن نفسه بشرط وحيد لا ثاني له: أن يكون لها منه طفل وحبذا لو كانت أنثى "تجمع في دمها الديانات الإبراهيمية الثلاث"، فهي ترى أن هذه الثمرة جامعة الأديان الثلاثة تهيئ صاحبتها لتكون "امرأة رسولة"، أي امرأة تنهي تصنيفات البشر وتوحدهم على قاعدة أن المسلم هو من يسلم الكون وكائناته من أذاه. بهذه النظرة التي تنظرها راحيل للأديان فإن كل الخيّرين من جميع الديانات يدينون مجازاً بالإسلام، وكل الأشرار ممن يدينون بالإسلام ليسوا في جوهرهم مسلمين.
***
بدا لي كقارئة أن هذا الخط الأساسي في رواية "ابن القبطية" يمثل التجلي الأدبي لأطروحة السلام الإبراهيمي التي ظلت تحلق زمناً طويلاً في الفضاء السياسي، حتى أتي ترامب وصهره وجعلاها عنواناً لاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل ومبادلة السلام بالسلام دون الأرض. وكما أن الأطروحة السياسية للسلام الإبراهيمي محمّلة بكل بذور الصراع المستقبلي لأنها تتنكر لقيمة العدل، فإن الأطروحة الأدبية للسلام الإبراهيمي مسكونة بأسباب الصراع لأنها تخلط ما بين احترام مبدأ التعددية الدينية ونفي الذات، وتقول لنا إن الواحد منا ليبدو منفتحاً على الجميع يجب ألا يكون نفسه. بمثل هذا الصراع اشتعلت معارك لا تنتهي داخل نفس يوسف، هو يريد لنفسه راحيل أو زليخة يوسف كما ذكر المؤلف لكن لا يلبث صوت جدته الحبيبة أن يأتيه محذراً "خلِ عينيك في رأسك يا حبيبي"، تجادله راحيل بأنه يوسف ابن محبّة أبيه المسلم لأمه القبطية كما كان يوسف ابن محبّة يعقوب لراحيل فيرد عليها "أنا ابن المحبّة حقاً يا راحيل لكنني لست ابنك". ثم يجب ألا ننسى أن المؤلف جعل ثمرة السلام الإبراهيمي التي تحلم بها راحيل هي ثمرة علاقة آثمة بينها وبين حسين وكأن المؤلف بذلك يسحب المشروعية عن حلم راحيل. من الوارد جداً أن أكون قد حمّلت المعني الذي يقصده المؤلف فوق ما يحتمل، لكن على أي حال فإن هذا هو عيب قراءة النص الأدبي بخلفية سياسية.
***
إن رواية "ابن القبطية" هي نص يصوّر لنا التصارع على ذات يوسف بشكل مرّكب ومتقن وبلغة رائعة الجمال، أتجاسر فأقول إنني لم أقرأ نصاً بهذه البلاغة منذ فترة طويلة، وربما الأدق القول إن نصاً بهذه البلاغة لم يقع بين يدي. وإذا كان الكاتب سعيد الكفراوي قد وصف نص الرواية بأنه "حوّل النثر لنص شعري" وأن الشعر عند وليد علاء الدين انتصر على الرواية، فأنا أقول إن المؤلف حوّل النص إلى سبيكة فيها شيء من كل شيء: الشعر والتصوف وفلسفة الأديان. إن قدرة المؤلف على التشبيه والوصف قدرة لا تُبارى، حتى إذا هو تكلم عن منصور تاجر الذهب السمين الذي سرق من يوسف حبيبته أمل تراءى لي وجه الممثل القدير عبد الغني قمر في رواية "بداية ونهاية"، بدا لي أن منصور هو عبد الغني قمر وأن أمل هي نفيسة، سياق غير السياق تماماً لكن هذا ما حدث. أما عندما قبض يوسف على السجادة المنقوشة فتثنت الطيور والأشجار المرسومة فوقها وانكمشت ثم أرخى قبضة يده فاستعاد الجميع أماكنهم فوق السجادة، تخيلت وكأنني أرى بعيني الشجرة شجرةً والطير طيراً، ألا قاتَل الله السياسة التي كانت تسحبني بين تارة وأخرى بعيداً عن هذا الجمال لأسأل: ما القصد من تلاقي الأديان الثلاثة في رحم راحيل التي هي ابنة يهوديين مصريين هاجرا لإسرائيل فتنكرت الأم لمصريتها والأب لا؟
***
نأتي بعد ذلك لمستوى آخر من مستويات الصراع على ذات يوسف، الصراع عليه داخل الجامعة، فهذا زميله منذر يريد تجنيده كي "يهدي" أمه سواء السبيل وينقلها من المسيحية إلى الإسلام، وذاك زميله چورچ يريد استمالته لمنع تنصير بنات الأقباط وربما اجتذاب مسلمين إلى المسيحية، وفيما بين صراع الدعوة والتنصير يحاول يوسف أن ينجو بنفسه فيتشجع ويسأل چورچ "ألا يمكن أن يوجد كل منكما في الوقت نفسه؟- يقصد أنت ومنذر"، فيرد عليه جورچ بغلظة "وجود كل منّا منتقَص بوجود الآخر". وكما يبدو فإننا هنا نصير إزاء مستوى من الصراع يحاول كل طرف فيه نفي ذات الآخر بعد أن كان الصراع مع راحيل حول مبدأ نفي ذوات الجميع دون استثناء بما فيهم الأنا. بوسائل أخرى سينتقل نموذج صراع منذر وچورچ إلى المستوى الأُسَري، فلقد رفضت أسرة أمل تزويجها من يوسف لأن أمه قبطية وهذا يعني اختلاط الديانات في داخل الأسرة الواحدة: أخوال أقباط وأعمام مسلمون، وهذا عليه محاذير في عرف زماننا. لم يشفع ليوسف حبه المجنون لأمل في أن يجعلها من نصيبه وقسمته، ولا شفعت له صداقة أسرته مع أسرة أمل الطويلة والعميقة والممتدة فالصداقة شيء والزواج شيء آخر، حتى لم يشفع له نموذج الزواج الناجح الذي قدمه أبواه وتعايش فيه فعلاً لا قولاً الهلال مع الصليب. لم يحتمل يوسف الصدمة فأصيب بانفصام في الشخصية، وأودع هلاوسه وأفكاره كراسة زرقاء يكتب فيها ويفضفض ويدخن الحشيش، والحد في كتابته بين الحقيقة والخيال يكاد لا يُرى للقارئ، فتارة نرى مع يوسف مراكب الحملة الفرنسية تمر بشاطئ الفيوم، وتارة أخرى نعيش معه في سبعينيات القرن الماضي، ونظل نتنقل به ومعه في مساحة البين بين حتى يقرر المؤلف أن يُسكِت بطله عن الكلام المباح.
***
إن "ابن القبطية" هو عمل يُشغّل الفكر بما يثيره من أسئلة، وبالقدر نفسه فإنه يُمتع العين بما يحويه من الصور الجمالية والفخامة اللفظية والنفحات الصوفية، ومن بين نفحات كثيرة حفلت بها الرواية فلقد أحببتُ النفحة التي استقاها المؤلف من مولانا جلال الدين الرومي. كان بطل الرواية يوسف حسين يدور حول نفسه بلا توقف كمثل الطائر الذبيح بعد أن ضاعت منه حبيبته فإذا بقول مولانا الرومي يدور معه ويلف لفه "لا يفنى في الله من لم يعرف قيمة الرقص".

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات