أفكار اقتصادية من داخل الصندوق - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 7:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أفكار اقتصادية من داخل الصندوق

نشر فى : الجمعة 27 أكتوبر 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 27 أكتوبر 2023 - 8:15 م

تزايدت فى الآونة الأخيرة الدعوات للسياسيين والمسئولين أن يتقدموا بأفكار جديدة تطرح حلولا من «خارج الصندوق» للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التى تواجهها البلاد، لا سيما مع دخولنا موسم الانتخابات الرئاسية وما يصاحبها من شعور بأننا بصدد فرصة للتجديد والتغيير. بالطبع هذه مطالب مشروعة، فمن البديهى أن تسعى المجتمعات دوما إلى التطوير والتغيير، لا سيما فى أوقات الأزمات أو الانتخابات، كما أن من حق الناخبين أن يتوقعوا سياسات جديدة أملا فى مستقبل أفضل.
إلا أن هذا النقاش يطرح بدوره عددا من الأسئلة الأساسية، من نوعية: ما هى طبيعة السياسات الاقتصادية المصرية القائمة؟ وهل تأتى من داخل الصندوق بالفعل؟ بل ما هو المقصود بالأفكار داخل الصندوق أصلا؟ ثم أخيرا، هل تحتاج مصر بالفعل إلى أفكار من خارج الصندوق؟
• • •
مهما اختلفت الآراء حول السياسات الاقتصادية التى سادت خلال السنوات الأخيرة، فلن يكون هناك خلاف حول وضوح ملامحها وقساماتها، وثبات بوصلتها واتجاهها:
1ــ الإنفاق بوفرة على مشروعات عمرانية وبنية أساسية، ليس فقط لفوائدها المعروفة، وإنما أيضا لتأمين الدولة من تكرار ما جرى فى ثورة يناير، بإبعاد مراكز الحكم عن تجمعات السكان، وتسهيل الانتشار الأمنى فى كل أنحاء الدولة بسرعة وكفاءة.
2ــ جعل مؤسسات الدولة مركز ثقل النشاط الاقتصادى، وتحديدا مؤسسات الدولة الصلبة، قبل القطاع الخاص والقطاع العام التقليدى.
3ــ إعطاء أولوية فى العلاقات الاقتصادية الخارجية لمشروعات وصفقات توثق العلاقات مع الدول المحورية.
4ــ تنفيذ مشروعات ذات قيمة مادية ومعنوية تترك أثرا إيجابيا لدى الرأى العام، مثل حفر مجرى إضافى لقناة السويس، والتوسع فى إنتاج الكهرباء ومعالجة فيروس الكبد الوبائى، وعدد من البرامج الاجتماعية.
5ــ أخيرا، تمويل ذلك من مصادر ريعية كبيع الأراضى أو تصدير الغاز، ومن معونات الدول الشقيقة، ومن قروض داخلية وخارجية واسعة النطاق، دون التقيد بتوجيهها نحو مشروعات قادرة على توليد دخل يتكفل بسدادها.
واقع الأمر أن أى اقتصادى يعرف أن هذه السياسات تقع فى مجملها خارج «الصندوق» الذى تأتى منه مناهج التنمية المعروفة، والأفكار الاقتصادية التقليدية التى عادة ما يدعو إليها الخبراء الاقتصاديون من اليمين واليسار على حد سواء، ويطالب بها القطاع الخاص المصرى والمستثمرون الأجانب وشركاء مصر الخارجيون ومؤسسات التمويل والتنمية الدولية. لكن الحكومة المصرية اختارت اتباعها كوسيلة لتحقيق رؤيتها، رغم ما ثار حولها من جدل، تجسدت فى الدعوات المتصاعدة للانتقال نحو سياسات أكثر تقليدية، أو بعبارة أخرى، اتباع سياسات من داخل الصندوق.
• • •
ما هى إذا السياسات التى كان يمكن استخراجها من هذا الصندوق؟
طبعا الحديث هنا لا يتعلق بحزمة سياسات واحدة تطبقها كل الدول كما هى، رغم وجود بعض الثوابت التى لا خلاف حولها، وإنما باقة متنوعة من السياسات الاقتصادية التى تبلورت بعد تجارب عديدة من النجاح والفشل، تتبنى الدول منها ما يناسبها من حيث ظروفها وتوجهاتها، على نحو يضمن أن يكون بينها تكامل وتناسق يخدم هدف التنمية على أفضل نحو يناسبها.
يأتى فى مقدمة هذه السياسات ما يمكن اعتباره الثوابت، والتى تشمل الأدوار الرئيسية للدولة وأهمها ضمان العدالة الناجزة، التى تتيح لكل صاحب حق أن يقتضى حقه مهما كانت قوة خصمه، بما فى ذلك سلطات الدولة نفسها، ومنظومة أمنية تحقق الحماية والانضباط بكفاءة وهدوء؛ وحسن إدارة المالية العامة، وخصوصا مبدأ وحدة الموازنة وشفافيتها، وإخضاعها لموافقة البرلمان ورقابته، ورقابة المؤسسات المختصة بذلك؛ وتوجيه السياسات النقدية نحو مكافحة التضخم، وألا تتحكم فيها السلطة التنفيذية وفقا لحساباتها. كما تشمل التزام الدولة بدور المنظم للعمل الاقتصادى، لضمان المنافسة العادلة وحماية المستهلك وتسهيل المبادرة وخلق الوظائف ومثل هذه الأمور، ويتبع ذلك بالضرورة أن تتخذ موقفا محايدا إذا ما تفاعلت مع المشروعات الخاصة فى السوق. يضاف إلى ذلك طبعا توفير البنية الأساسية الضرورية، والارتقاء بالتعليم والصحة كحق أساسى لكل المواطنين، وكعنصر حيوى للتنمية الاقتصادية.
كما أن تجارب الدول التى حققت نجاحا اقتصاديا معتبرا تضمنت مجموعة من السياسات من أهمها السعى نحو تحقيق التنمية المتوازنة بمعناها الواسع، المتمثلة فى توزيع التنمية قطاعيا بشكل مدروس، بين الصناعة والزراعة والخدمات، وبين الأنشطة الإنتاجية المعروفة بصعوبتها وفائدتها من جانب، والأنشطة الاستخراجية والريعية والعقارية المعروفة بسهولتها وإغرائها ومخاطر التوسع فيها من جانب آخر، مع العمل على توجيه ما يتوافر من رأس مال نحو الأنشطة التى تحقق أكبر قدر من فرص العمل والإنتاج القادر على المنافسة والنمو، مع ضمان حد معقول من العدالة الاجتماعية، والسعى فى توزيع فرص التنمية جغرافيا على أفضل نحو ممكن. صحيح أن أساليب تحقيق هذه الأهداف، والسياسات المتبعة لذلك، تختلف من دولة إلى أخرى حسب ظروف كل منها، والتوجهات السياسية التى تتبناها حكوماتها، لكن المؤكد أنه لا توجد تجربة تنمية ناجحة لم تتخذ مما سبق أهدافا لسياستها الاقتصادية، وطبقتها بالتزام واستمرارية.
• • •
ورغم أن بعض مكونات هذه الباقة من السياسات عرف طريقه إلى سياسات الحكومة المصرية فى مراحل مختلفة، فإنها لم تطبق فى أى وقت بشكل متكامل وباستمرارية كافية، ودون أن تعرقلها سياسات أخرى مناقضة لها، أو ممارسات تجهض آثارها. لهذا فربما يكون الاقتصاد المصرى قد وصل اليوم إلى النقطة التى يتوق فيها إلى تبنى نسق متكامل من سياسات اقتصادية آتية من داخل «الصندوق»، والتى قد تكون صعبة، وربما لا تكون براقة، ومن المؤكد أنها لن تؤتى ثمارها بسرعة، لكنها آمنة وثبت نجاحها فى تجارب سابقة، وهى أيضا مفهومة للعالم من حولنا، بدءا بمؤسسات التمويل الدولية، وصولا إلى المستثمرين المأمولين، مرورا بوكالات التصنيف ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث، وهو ما نحتاجه اليوم أكثر من أى وقت مضى.

أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات