دور الدولة فى الاقتصاد - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 11:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دور الدولة فى الاقتصاد

نشر فى : الأحد 2 يوليه 2023 - 7:10 م | آخر تحديث : الأحد 2 يوليه 2023 - 7:10 م

لم تحظ قضية اقتصادية مؤخرا فى مصر باهتمام يفوق الذى حظى به دور الدولة فى الاقتصاد، مع تصاعد وتيرة وجدية إثارتها من صندوق النقد الدولى ضمن متطلبات استكمال خطوات الإصلاح الاقتصادى، ومن جانب قطاع من الخبراء ورجال الأعمال فى إطار الحديث عن معوقات النمو والمنافسة. والحقيقة أن هذه القضية تعد من أكثر القضايا خلافية والتباسا فى النقاش العام، من حيث المقصود بدور الدولة، وما إذا كان أمرا طيبا يصح التوسع فيه أم مكروها ينبغى تقليصه.
لهذا، فربما يكون مفيدا استعادة بعض أساسيات هذه المسألة وتاريخها بشكل مبسط دون إخلال بالدقة، واستعراض الحجج المختلفة بشأنها، أملا فى أن يسهم ذلك فى تطوير النقاش الدائر حولها اليوم.
ولعله من الواجب تحديد المقصود بكلمة «الدولة» فى هذا السياق. فالدولة كمصطلح سياسى وقانونى يعنى مجموعة من البشر، يطلق عليهم الشعب، يعيشون فى إقليم جغرافى محدد، وتنظم حياتهم سلطة ونظام سياسى وإدارى وقانونى موحد. أما المعنى المستخدم عند الحديث عن دورها فى الاقتصاد ــ وفى سياق هذا المقال ــ فيقصد بها السلطة العامة والجهاز الحكومى البيروقراطى والأمنى والعسكرى. ومن المفارقة أن البعض يتناول المصطلح بهذا المعنى الأخير في الحديث الدارج، طارحا الدولة ككيان مقابل للشعب، بالمخالفة لمعنى المصطلح الأصلى الذى يعتبر الشعب الركن الأهم للدولة وسبب ومبرر وجودها. ولذا، فعندما نتناول الدولة كفاعل اقتصادي بمعنى السلطة العامة، علينا أن نتذكر أن هذا لا ينبغى أن يأتي على حساب المعنى الأصلي الذى يضع الشعب في أساس وجوهر الدولة.
• • •
فى البدء ــ أى فى مطلع تاريخ البشرية ــ كان العمل الاقتصادى نشاطا خاصا، لأن فكرة الدولة ببساطة لم تكن قد ولدت بعد. لكن الحال تغير مع تنظيم الناس لأنفسهم للوفاء باحتياجاتهم وتطورها، فقامت صيغ متنوعة للتنظيم السياسى اختلفت صور تدخلها فى النشاط الاقتصادى، إلا أنها اشتركت جميعا فى عنصر بالغ الأهمية، وهو جباية الأموال لتمويل الإنفاق الحكومى، الأمر الذى كثيرا ما اختلط بتكاليف نزوات الحكام ومغامراتهم وأطماعهم.
إلا أن معضلة دور الدولة فى الاقتصاد بالصورة الحديثة التى نتناولها هنا، فقد صاحبت قيام الثورة الصناعية فى غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، عندما طالبت فئة الرأسماليين الصناعيين بإتاحة أكبر قدر من الحرية الاقتصادية، والحد من دور الدولة وما تفرضه من ضرائب، وإخضاعها للرقابة فى إنفاقها، فيما سمى بالاقتصاد الحر. إلا أن هذا سرعان ما استدعى رد الفعل المقابل بظهور الأفكار الاشتراكية التى دعت إلى إقامة نظام جديد للدولة تقوده الطبقة العاملة، لينهى الظلم الاجتماعى والتنمية غير المتوازنة للرأسمالية، وأن تحل محلها الدولة فى امتلاك وسائل الإنتاج ليكون دورها فى الاقتصاد شاملا.

طبقت الأفكار الاشتراكية بعد الثورة السوفيتية فى روسيا سنة 1917، وانتشرت منها إلى العديد من دول العالم خاصة فى شرق أوروبا وآسيا. وبعد فترة من التحديث والنمو السريع، بدأت هذه التجارب تشهد تراجعا تدريجيا انتهى بانتهائها سواء بسقوط النظم نفسها، أو استمرارها مع تحولها إلى الرأسمالية. رغم ذلك، فإن الفكر الاشتراكى نفسه كمنهج، لعلاج تحديات العدالة والتنمية والتوازن، لم يسقط، بل أن البعض يرى أنه حقق أكبر نجاح له بتغيير النظام الرأسمالى نفسه.
فقد شهد القرن العشرين تغييرا كبيرا فى دور الدولة فى النظم الرأسمالية، حيث أدى الخوف من انتشار الشيوعية إلى التوسع فى البرامج والسياسات الاجتماعية التى تعظم دور الدولة أو تقيد من حرية رأس المال مثل مجانية التعليم والرعاية الصحية، وقوانين التأمينات وحماية حقوق العاملين، والضرائب التصاعدية. كما أدت الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البالغة للكساد الكبير الذى سبق الحرب العالمية الثانية، وما كشف عنه من قصور فى الرأسمالية المطلقة، إلى ظهور أفكار اعتبرت أن الدولة تملك القدرة وعليها مسئولية ضبط تأرجح الدورة الاقتصادية بين الكساد المدمر والتوسع المحموم من خلال إدارة الإنفاق الحكومى بغرض التحكم فى الطلب، بزيادته فى أوقات الكساد، وتقليصه فى أوقات التوسع، الأمر الذى تعزز بزيادة دور الدولة فى مشروعات البنية الأساسية نتيجة لتطور وسائل النقل والاتصال والمرافق مثل الكهرباء والمياه النقية والصرف الصحى. وأخيرا، مع تعقد النظم الاقتصادية ازداد دور الدولة فى تنظيم النشاط الاقتصادى بشكل غير مسبوق.
• • •
أسفرت هذه التجارب عن تبلور توافق عريض على أن يشمل دور الدولة -بصيغة أو بأخرى- مسئولية ما يعتبر مصالح عامة ليس فيها ما يجذب الاستثمار الخاص، مثل الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، والبنية الأساسية والمرافق حتى لو بمشاركة القطاع الخاص، وإدارة الثروات العامة والموارد الطبيعية، وتنظيم النشاط الاقتصادى من خلال القوانين والقواعد والمؤسسات المعنية بأمور مثل النقد والبنوك والخدمات المالية، والجمارك، وحماية المنافسة ومنع الاحتكار، والمواصفات والمقاييس، وجمع ونشر الإحصائيات والبيانات، وفرض الضرائب والرسوم وتحصيلها لتمويل واجبات الدولة ولتحقيق التوازن الاجتماعى. وبهذا انحصر النقاش حول هذه المسألة فى مساحة أكثر تحديدا، لا سيما مع تصاعد دعوات تقليص دور الدولة فى الاقتصاد منذ الثمانينات، حيث أصبح يتركز فى الدور الذى يمكن أن تضطلع به فى الأنشطة الإنتاجية بمعناها الواسع: أى الزراعة والصناعة والتعدين والخدمات غير العامة، وشكل وحدود هذا الدور.
حيث مالت تيارات اليسار إلى اعتبار أن الدولة مطالبة بالمشاركة بفاعلية فى الاقتصاد كمنتج ومقدم للخدمات، وكمنظم للأسواق، وكموجه للنشاط الخاص، تحقيقا للعدالة الاجتماعية، ولكى لا تترك الحرية للاستثمار الخاص لتعظيم أرباحه حتى لو على حساب الأشخاص المستهلكين، ولتوفير سلع وخدمات تنافس القطاع الخاص لضبط الأسعار، هذا فضلا عن اطلاع الدولة بالمشروعات الضرورية لبناء اقتصاد قوى.
فى المقابل، يرى الفكر اليمينى المحافظ وجوب انسحاب الدولة تماما من الأنشطة الاقتصادية، اقتناعا بأنها مدير فاشل تخضع فى إدارة مشروعاتها للاعتبارات الإدارية والسياسية، على حساب الكفاءة والتنافسية، كما أنها تنزلق بسهولة وسرعة إلى البيروقراطية والجمود والفساد، وتفتقد الشغف بالتفوق والنمو، وروح المبادرة والابتكار التى تقف وراء نجاح النظام الرأسمالى. كما أن امتلاك الدولة أدوات السلطة العامة يغريها باستخدامها لحماية مشروعاتها من تبعات أخطائها، وإكسابها وضعا تنافسيا مصطنعا، وهو ما يُضْعِف أداءها، ويقوم بدور طارد للاستثمار الخاص لن يقبل على دخول منافسة غير متكافئة، فضلا عن حرمانه المستهلك من تنافس المنتجين الذى يتيح له مكافأة المنتج الجيد، ومعاقبة الردئ. بل أن البعض ذهب إلى إمكان إشراك القطاع الخاص فى بعض المهام المتفق على أنها مسئولية الدولة للارتقاء بكفاءتها.
والحقيقة أن تراكم تجارب النجاح والفشل، وبوجه خاص النماذج التى قدمتها دول الاتحاد الأوروبى وآسيا التى حققت نجاحا اقتصاديا معتبرا، أسفرت عن طريق بين هذين التوجهين، أساسه إتاحة مساحة واسعة للمبادرة والملكية الخاصة باعتبارها الأقدر على العمل بكفاءة وإبداع، وعلى خلق الوظائف الدائمة، وزيادة القدرة الإنتاجية للاقتصاد، مع ابتعاد الدولة عن المشاركة المباشرة فى الإنتاج، على أن تقوم –فى المقابل- بدور قيادى فى صياغة الحياة الاقتصادية وتنشيطها وتوجيهها، والحفاظ على التوازن الاجتماعى الاقتصادى، وتبنى سياسات صناعية تدعم التحديث والتنمية، وتوفر ظروفا تجذب الاستثمار الخاص وتساعده على التطور وزيادة تنافسيته، ووضع إطار قانونى ومؤسسى وضريبى يوجه المبادرات والموارد نحو الأنشطة الداعمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتى تحافظ على البيئة، ويفرض تكلفة إضافية على الأنشطة الأقل فائدة، وكلها أمور لا يصح معها أن تكون الدولة طرفا فى سوق المنافسة مع الاستثمار الخاص، لكى لا تصبح خصما وحكما فى نفس الوقت.
ما يختلف بين دولة وأخرى حسب ظروفها واحتياجاتها وما يمكن وصفه بمزاجها الاقتصادى، هو مدى ممارسة الدولة لهذا الدور، وكيف يمكن موازنة فوائده بتجنب مخاطر تبنيها لصناعات قد تثبت الأيام افتقادها مقومات النجاح، أو قيامها بذلك بطريقة تجعل هذه الصناعات تعتاد الدعم الحكومى فلا تتطور، وما إذا كانت هناك ظروف معينة يمكن معها أن تضطلع الدولة مباشرة، وعلى سبيل الاستثناء، سواء بمفردها أو بمشاركة الاستثمار الخاص، ببعض الأنشطة الإنتاجية الضرورية التى يتجنبها الاستثمار الخاص لعدم ربحيتها.
• • •
يُنْسَب إلى الشاعر والفيلسوف الفرنسى بول فاليرى (1871-1945) مقولة أنه «إذا كانت الدولة قوية فإنها تسحقنا، وإذا ضعفت فإننا نفنى». هذه المقولة تصح على الاقتصاد مثلما تصح على باقى جوانب الحياة، فمثل ما لإطلاق يد الاستثمار الخاص بدون قيود من مخاطر على الاقتصاد والمجتمع لا تقل عما يترتب على تكبيله بالقيود والعراقيل، فإن لتوسع دور الدولة فى النشاط الاقتصادى أضرارا لا تقل عن أضرار غيابها، وعلى المجتمع الذى ينشد النجاح الاقتصادي أن يجد تلك النقطة التى تتوازن فيها كفاءة النشاط الاقتصادي الخاص مع اضطلاع الدولة بدورها فى تنظيم ومساعدة هذا النشاط، والحفاظ على التوازن الاجتماعى.

قانونى ودبلوماسى سابق

أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات