وَصْــــلَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وَصْــــلَة

نشر فى : الجمعة 25 مارس 2022 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 25 مارس 2022 - 9:30 م
مَرَرت بسيارةٍ خاصة صغيرةِ الحجم، تفتح حقيبتَها كما جرت العادة في هذه الأيام؛ مُستضيفةً آلة صنع القهوة ومُستلزماتها، وقد أوقفها صاحبُها إلى جانب واحدٍ من أعمدة النور المُتراصة بطولِ الشارع، وأوصل بينهما سلكًا كهربائيًا، فإذا الآلة تعمل بكفاءةٍ، والزبائن يتوافدون، والمشروباتُ الساخنة تتوالى. لم تكُن المرةَ الأولى التي أشاهد فيها استخدامًا مبتكرًا للعمود الذي يضيء نهارًا ويُعتم ليلًا، إنما لفتت نظري "البريزة" التي تم تركيبها بأناقةٍ على جسمه، لتستقبل المقبس المَمدود من السيارةِ، وكأن صانع القهوةِ قد حطَّ رحالَه، وراح يؤسس ما يُعينه على استقرارٍ دائم.
• • •
ليست هذه الوَصْلَةُ استثناءً، فوَصلةٌ كهربائيةٌ أخرى يستعين بها بعضُ مَن لا يملكون الحدودَ الدنيا مِن ضروراتِ المَعيشةِ، ويفتقرون إلى الحاجاتِ الأساسيةِ التي لا غِنى عنها لإنسان. يعجزون عن التعامُل مع أسعارِ الكهرباءِ الباهظةِ التي جاوزت حدودَ المعقولِ إلى ما ليس بمعقولٍ ؛ فيمدون بدورِهم ما يحملِ إليهم بعضَ ضوءٍ، علَّه يُخفِّف العتمةَ الغالبةَ على حيواتهم.
• • •
وَصْلَةٌ أقل تواضُعًا يمكن مدّها للتلفزيون، فيلتقط عبرها القنواتِ الفضائيةِ مَفتوحةً ومُغلقة؛ يتشاركها الناسُ ليصبحَ في مَقدورِهم الاستمتاع بقليلٍ من الترفيه. يكسرون القواعدَ ويُوفِّرون مسرَّاتهم البسيطةَ وإن بوسيلةٍ غير مَشروعة، يتابعون المُنافساتِ الرياضيةَ المُهمَّة ومُبارياتِ كرةِ القدمِ المَمنوعةِ عليهم- والتي تحوَّلت بذاتِها إلى مَشروع احتكاريّ مُزعِج- دون أن يضطروا إلى اشتراكٍ صار بدورِه خارجَ المُستطَاع.
• • •
الوَصْلَةُ اسم مَرَّة من الفِعل وَصَلَ، أي رَبَط طرفًا بآخر، وسواءً كان المَوصولُ إنسانًا أو جمادًا فالنتيجةُ واحدةٌ: علاقة تنشأ لسدِّ احتياجٍ ما. إذا قيل همزةُ وَصلٍ؛ فالقَصد مَدخلٌ للتعارف والتقارب. جسرٌ يُقام بين أكثر مِن طَرفٍ كي يُسهل العبور. قد يصبح اللقاءُ الأولُ حافزًا على اتخاذ خطواتٍ أخرى، وقد تخيبُ المساعي وتنقطع الهَمزةُ وينفرطُ الوَصل.
• • •
الوَصْلَةُ بين طريقين تختصر المسافاتِ البعيدةَ، وما أبدعنا في البَحثِ عن طُرقٍ مُختصرة قصيرة؛ يتحقَّق من خلالها الهدف. بعضُ الأحيان تكون الوَصْلَةُ حاضرةٌ إنما غير مَطروقة، وفي أحيان أخرى يأتي مَن يخترعها ويُعبِّدها ثم يستخدمها من ورائه آخرون. ما مِن سائق لم يحاول ذات يوم تفادي بروز الوَصَلاتِ المعدنية التي تتخلَّل أجسامَ الجسور، فترُّج العربةَ وتؤذي عجلاتِها، والحقُّ أن هذا ليس بهدف من الأهداف التي صُمِّمَت لها، إنما يندر أن تخضعَ لصيانةٍ دوريةٍ تحميها وتكفي العابرين بسياراتهم شرورَها.
• • •
الوَصَلاتُ كثيرةٌ مُتنوِّعة؛ إذا "نامت" البطارية وخمدت؛ فوَصْلةٌ مِن بطاريةٍ صديقة، لم تزل في أتمِّ حَيويَّةٍ وصِحَّة، تُجدِّد الطاقةَ المَفقودةَ وتُعيد الشَّحنَ، وتنقذ وقتًا على شفا الضياع. وَصلَةٌ أخرى ذات طابعٍ شديدِ الخصوصِيَّة، يعرفها ولا شكّ هؤلاء الذين يملِكون باعًا في أمور الخياطةِ وفنونها. تُحاك قطعةٌ مِن نسيجٍ مُلائم، لتستقرَّ بين حافتيّ رداءٍ ضاق عن صاحبه أو صاحبته، فتضيفُ إلى وسعهِ سنتيمترات وتجعل مَقاسَه مُناسبًا مِن جديد.
• • •
إذا صدح صَوتٌّ وقيل وَصلةٌ غنائيةٌ لفلان؛ كانت الكلمةُ تعبيرًا عن قيمة الواقف أو الواقفة فوق المَسرح. ارتبطت "الوَصْلَة" بأصواتٍ ذات مكانة رفيعة، ما إن تغادر الحناجر حتى تشيع في الأجواء حالًا من الطرب والبهجة، وتحلق بالسامعين بعيدًا عن الأرض، وإذا بالجالسين في حضرتها هائمين منتشين، وما كان حضور أم كلثوم إلا وَصْلةً من الجَمَال المُصفَّى تجلو الكونَ وتنقي الروح. جرت العادة بألا يُطلق مُذيع أو مذيعة مفردة "وَصلَة" في مقامٍ مُتدنٍ، يتذبذبُ من صاحبِه الصوتُ وتشذُّ الألحانُ وتؤذي الكلماتُ الآذانَ، والحقُّ أن قليلين على الساحة الآن من يُمكن إلحاقُ أسمائهم أو تقديمها مَقرونة بالوَصلَة، صارت المُفردةُ نادرةَ الورودِ على الألسنة، شحيحةَ الاستخدام.
• • •
ثمَّة وَصْلَة ضحكٍ تقابلها وَصْلةُ بكاء، والمعنى في الحالين يوحي بالاستمراريةِ والدوام. فعلٌ لا يقطعه آخر، ولا تتخلَّله راحةٌ أو لحظةُ سُكون، ولا يُنتَظَر أن يهدأ فاعلُه أو يكتفي؛ إنما يواصِل بثَّ مشاعرَه؛ مُتخلِّصًا مما عبأ وراكَمَ. ميلٌ للانبساطِ والتفريج، سخريةٌ لا يوقفها عائقٌ، أو تعاسةٌ مُوغِلة تشقُّ لها مَخرجًا.
• • •
وَصْلَةُ العتابِ لها هي الأخرى من الأفكارِ نصيبٌ؛ فما إن تسقط حوائطُ الكِتمان وتنهار الدفاعات بعدما زاد الكيلُ وفاض؛ حتى ينطلق العتابُ وتصطفُّ فقراتُ اللَّومِ، فإذا كان المَلومُ على قدر المسئوليةِ تبدَّلت الحالُ، وإن ملكَ أذنًا من طين وأخرى من عجين، لم تحدث فيه الوَصْلَةُ أثرًا، ولا كانت مِن الضرورةِ بمكان.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات