«المتعقّب».. عن المعجزة التى فى أعماقنا! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«المتعقّب».. عن المعجزة التى فى أعماقنا!

نشر فى : الخميس 20 ديسمبر 2018 - 10:35 م | آخر تحديث : الخميس 20 ديسمبر 2018 - 10:35 م

ربما تكون الترجمة الأفضل لفيلم «stalker» للمخرج الروسى الفذ أندريه تاركوفسكى هى «الدليل» أو «المرشد»، ولكن بانوراما الفيلم الأوروبى اختارت الترجمة الحرفية، وهى «المتعقّب»، فى كل الأحوال فإن إعادة مشاهدتنا لهذه التحفة المدهشة، تذكرنا بما أضافه هؤلاء الكبار، وتاركوفسكى من بينهم بالتأكيد، سواء فيما يتعلق بجماليات السينما، أو بتأكيد قدرتها على طرح أعقد الأسئلة الإنسانية والفلسفية..
تبدو القصة بسيطة ومشوقة أيضًا: فى مكان ما، يتخصص رجل يطلقون عليه «الدليل»، فى تنظيم رحلات إلى مكان غامض، يطلقون على المكان اسم «المنطقة»، الذى يقود بدوره إلى مكان أكثر غموضًا يطلقون عليه اسم «الحجرة»، من يصل إليها تتحقق كل رغباته، ولكن السلطات أغلقت المكان الذى توجد به «المنطقة»، و«الحجرة»، اعتبرتهما كنوزًا تخضع للحراسة، الدليل وحده ينجح فى الذهاب فى رحلة محفوفة بالمخاطر، ومعه اثنان فقط: كاتب مكتئب، يبحث فى المكان الغامض عن الإلهام، وعالم متشكك يتمنى أن يعثر فى المنطقة على اكتشافٍ يتيح له الفوز بجائزة نوبل!
بعد مخاطر كثيرة، وعند الباب المؤدى للحجرة، يتشاجر الثلاثة، بعد أن قرر العالم نسف «الحجرة»؛ لأنها تسببت فى انتحار أحد زوارها، وبالتالى يراها خطرة، ولكن الكاتب يتراجع أمام توسلات الدليل، يعود الجميع، ويفقد الدليل ثقته فى أهمية «المنطقة»، ولكن زوجته تؤكد حبها له، ورغبتها فى أن يقودها فى رحلة خاصة إلى المكان الغامض، وبينما تنظر ابنته الصغيرة إلى الأكواب على المائدة فتتحرك، نستمع إلى أنشودة الفرح من سيمفونية بيتهوفن التاسعة، وينتهى الفيلم.
يمكن اعتبار الرحلة بأكملها رحلة اكتشاف داخلية، رغم أنها تُقدم بتفصيلاتٍ خارجية مدهشة ومشوقة تمامًا، إنه فيلم عن ضرورة الإيمان والأمل، وعن معجزة الحس والإحساس، عن الروح وليس عن العقل، وعلى الرغم من أن الكاتب والعالم يمتلكان الموهبة والقدرة، فإنهما يفتقدان أهم الأشياء: الروح والإحساس والبصيرة، وكلها أمور جعلت الدليل قادرًا على قيادة تلك الرحلات، فالوصول إلى «المنطقة» يعتمد على الإحساس، وتلبية الرغبات عند الوصول إلى «الحجرة» لا يعتمد على اللسان والكلمات، ولكن على الصدق، وإلا عاقبت الغرفة أصحاب الأمنيات الكاذبة.
لن نعرف أبدًا أسماء الكاتب أو العالم أو الدليل، وكأن هذا التجريد يترجم كونهم تعبيرًا عن أفكار، فالأدب والعلم بدون روح وبصيرة يحولهما إلى نتائج متخبطة، ويوصلهما إلى طريق مسدود، بل إن الكاتب والعالم يؤثران سلبيًّا على ثقة الدليل فى نفسه، بينما رأيناه فى المشهد الأول من الفيلم، وهو مصمم على بداية الرحلة، رغم توسلات زوجته، وكأنه صاحب رسالة مؤمن بها.
الفيلم فى معناه الأعمق لا يخذلنا أبدًا رغم عدم الوصول إلى «الحجرة التى تحقق الأمنيات»، والتى تحقق السعادة؛ لأنه يقول ببساطة إن «المنطقة»، و«الحجرة»، و«المعجزة»، بداخلنا نحن، بشرط أن نؤمن ونحس، وهذا ما يتجسد حرفيًّا فى قدرات ابنة الدليل التى تحرّك الأكواب، وتصاحبها على شريط الصوت «أنشودة الفرح»، وصوت القطار، الذى ارتبط معنا بالرحلة إلى المنطقة، فكأن الرحلة والمعجزة والمنطقة والغرفة هنا فى الداخل، فى القلب والبصيرة، فى الروح التى تؤمن فتريد، وتريد فتحقق ما ترغب فيه.
تتداخل أفكار فلسفية ودينية ونفسية فى نسيج متين، وفى بناء بصرى وسمعى يستحق دراسة مستقلة، الإيقاع بطىء مناسب للتأمل، وتاركوفسكى يعيد توظيف كل أدوات السينما، يُشكّلها مثل عجينة يصنع منها رحلته، حركة الكاميرا غير المحسوسة، واستخدام المشهد المصور فى لقطة واحدة، ونقل الزمن الفعلى كما هو، كل ذلك جعلنا جزءًا من الرحلة، وفى قلبها، كما أنه يستخدم الألوان، بما فيها الأبيض والأسود فقط، للتعبير عن تقلبات الرحلة، ومدى اقتراب الرحّالة الثلاثة من المنطقة، أو غموض مصائرهم، مع جمل موسيقية يظهر فيها الطابع الشرقى، تعبيرًا فيما أعتقد عن روحانيةٍ مفقودة.
الدليل فى هذا الفيلم هو «تاركوفسكى» نفسه، والدليل أيضًا هى عين كاميرته التى انحازت للروح، والتى جعلت من الرحلة الخارجية تعبيرًا عن رحلة داخلية أعمق، لاكتشاف قدراتنا التى لا نعرف بوجودها، أو لا نؤمن أصلًا بأنها موجودة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات