كل أحذيتي ضيقة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كل أحذيتي ضيقة

نشر فى : الخميس 17 مارس 2022 - 9:10 م | آخر تحديث : الخميس 17 مارس 2022 - 9:10 م
هذا هو المقال الثاني عشر في سلسلة المقالات التي أكتبها عن الشخصية القبطية في الأدب المصري، والرواية التي سأعرض لها في هذا المقال هي رواية "كل أحذيتي ضيقة" في طبعتها الثانية الصادرة عن دار آفاق عام ٢٠١٥ للأديب عادل أسعد الميري. هذه الرواية ليست أحدث ما كتبه الميري لكنها رواية تأسيسية لفهم البيئة التي نشأ فيها والتي ساهمَت في تشكيل شخصيته وتفكيره ومسار حياته. البطل في هذه الرواية يحمل اسم ناجي نجيب مسيحة المنياوي، لكن الميري يظهر فيها بذاته وتفاصيل حياته، لذلك سيتكرر في القراءات النقدية لهذا العمل وصفه بأنه شبه سيرة ذاتية، وسيجد القارئ لأعمال الميري السابقة على "كل أحذيتي ضيقة" والتالية عليه تناولًا متعمقًا من الميري لأهم محطات حياته، ففي "شارع الهرم" نجده يحكي عن تجربته كعازف جيتار في فرقة موسيقية غربية بملهى باريزيانا بشارع الهرم، وفِي "تسكّع" نراه يستعيد ذكريات تجواله في شوارع باريس بمقاهيها ومتاحفها وكنائسها وقد اعتاد التردد عليها طيلة ١٥ عامًا ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر كل عام بعد زواجه من ريتا المرشدة السياحية الفرنسية، وفِي "لم أعد آكل المارون جلاسيه" نعايش قصته مع زوجته ريتا ومعاناتها الشديدة من مرضها النفسي الذي كاد أن يقضي عليها، وفِي "خيوط أقمشة الذات" يعرّفنا على أسرة والدته أبًا عن جد وعلى مدرسيه والكتب التي أحبها والأفلام التي غُرِم بها وعن رحلة الأربعة أشهر إلى بريطانيا حيث عمل بمخبز آلي ووفّر مالًا سمح له بشراء سيارة ڤولكس موديل ٧١، أما "وهم صاغرون.. حكايات عن أقباط مصر" فهو عمل سأعود إليه بالتفصيل لاحقًا، لكن سأكتفي هنا مؤقتًا بالقول إنني كقارئة قضت أكثر من ثلاثة أشهر في قراءة وتحليل أدب عادل أسعد الميري وجدتُ هذا العمل خارج سياق مشروعه الأدبي، أما خصائص هذا المشروع فهي كونه يركّز على السيرة الذاتية للمؤلف، ويهتم بالمقارنة دائمًا بين الشرق والغرب، ولقد اعترف الميري بأنه يحب الكتابة عن التجارب الذاتية خصوصًا ما كان له منها بُعْد يتصل بالاحتكاك بالخارج، وأن هذا البعد هو أكثر ما شدّ نظره في أدب سلامة موسى ويحيى حقي وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وكل العصافير التي حملتها أجنحتها فطارت من الشرق إلى الغرب. ثم أن الميري يهتم كثيرًا بالغوص في التفاعلات داخل النفس البشرية، وربما لو كان قد تخصّص في الطب النفسي لكان بارعًا فيه. ثم أنه لا ينسى وهو يكتب مهنته كمرشد سياحي من الطراز الأول، فمن أعماله ما يتصّل بهذه المهنة بشكل مباشر كما في "القارئ الجالس القرفصاء" عن عادة القراءة لدى الفراعنة وهم في وضع القرفصاء مثلهم في ذلك مثل قدماء الصينيين، ومن هذه الأعمال ما يدخل في أدب الرحلات كما في "بلاد الفرنجة"، وهو في كل الأحوال يقدّم لنا جرعة من المعلومات عن معاني المفردات وتاريخ الأقليات وشكل العلاقات والطبقات زمان والآن.
• • •
عادل أسعد الميري إذن هو تركيبة مختلفة عن كل الأدباء الذين عرَضتُ لأعمالهم من قبل، فهو الطبيب الذي لم يشتغل بالمهنة بل عمل مرشدًا سياحيًا، وهو ابن الأسرة المحافظة جدًا الذي اشتغل في الملاهي الليلية في عزّ ازدهارها، وهو المثقف الذي أحبّ فرنسا وتزوّج منها وأتقن لغتها وترجم منها للعربية لكنه لم يتخذ فرنسا مستقرًا له لأن أكل عيشه في مصر، وهو الذي اختزن في داخله طاقة الكتابة حتى جاوز الخمسينيات من عمره ثم إذا به يكتب ويكتب دون توقف من عام ٢٠٠٤ وحتى الآن، وأخيرًا فإنه الشخص الذي بدأ معتقدًا أن الإنسان يمكنه أن يكون مسلمًا ومسيحيًا في الوقت نفسه كما أن والدته أرثوذوكسية ووالده أرثوذوكسي وكلاهما مسيحي ثم تحوّل ليصبح هو المسيحي الذي لا علاقة له بالدين وهو في الوقت نفسه المسيحي الذي يشعر بالتمييز ضده بسبب هذا الدين. تلك الخلطة الغريبة العجيبة من التجارب والمشاعر والمتناقضات تبعثَرَت في كل أعماله الأدبية فنال منها كل عمل جزءًا على نحو يذكّرنا بأدب إدوارد الخرّاط لكن من منظور التحليل النفسي. وإنني إذ اخترتُ الانطلاق من "كل أحذيتي ضيقة" فلأنه يصعب فهم تشابكات شخصية الميري دون البدء بقراءتها، وأعترف أيضًا أن عنوان العمل أغراني جدًا لأنه شديد الإيحاء، فالحذاء الضيّق مؤلم وأهم من أنه مؤلم أنه لا يسمح بالحركة، وهكذا كانت حياة الميري حتى أوائل العشرينيات من عمره ثابتة في مكانها لا تتحرك. يشبّه الميري نفسه بشخصية كامل رؤبة بطل رواية "السراب" العظيمة لنجيب محفوظ، ذلك البطل وحيد أمه الذي أدّى تسلّطها عليه إلى إفقاده الثقة بنفسه تمامًا. ضرَبَت الست عايدة سليلة الحسب والنسب حصارًا خانقًا حول ابنها عادل، لا يلعب في الشارع ولا يأكل الأكل الشعبي (حتى الترمس!) ولا يشبه الأطفال في شيء. ثم جاء أبوه طبيب المسالك البولية الناجح ليكمل باقي الحصار، تحكّم في كل القرارات التي تخّص تعليمه وأهمها قرار دراسة الطب ذلك التخصص الذي لم يحبّه الميري أبدًا وكيف له أن يحبه وهو يشفق على الضفادع، بل تحكّم أبوه حتى في نوع الكتب التي يقرأها، فوحدها كتب الطب هي التي تليق باستهلاك النظر، علّمه أبوه الخنوع كفّا للمشاكل فاعتاد الميري على التفريط في حقه بعكس أخيه الذي تمرد على السلطة الأبوية لوالديه معًا. وعندما نتأمل تلك الأوصاف القاسية التي وصف بها عادل والديه الدكتور أسعد والست حرمه، وصولًا إلى تمنيه لو كانت له شخصية "تان تان" الذي لم يظهر والداه في حياته أبدًا، ندرك حجم معاناة عادل من أحذية طفولته الضيقة على قدميه. فقط عندما انتقل من طنطا حيث كان يعيش مع أسرته إلى بيت جدته في حيّ العباسية ونقل أوراقه في السنة النهائية إلى طب عين شمس، تحرّر وانطلق فاشترى چينزًا لأول مرة في حياته، وأطلق شعره على طريقة الخنافس، ودرس في المركز الثقافي الفرنسي ليتعرّف على البنات، وراح يلّف بعربته الفولكس ليل نهار كأنه "صايع أزلي".. لكن، ولكن هنا مهمة جدًا بعد أن كانت قد تهتكّت تمامًا بعض "خيوط أقمشة الذات-ذاته".
• • •
يحكي لنا الميري كيف بدأ يتعرّف على هويته الدينية ويكتشف أنه يختلف عن زملائه في الفصل، وكان ذلك في سنة ثالثة ابتدائي في مدرسة القدّيس لويس في طنطا عندما طلب منه زميله المسلم الشقي ألا يكتب اسمه على السبورة كي لا يعاقبه المدرّس، وزاد فاستحلفه بالمصحف ودسّه في جيبه. وعندما عاد الميري لأمه فخورًا بالمصحف الهدية ردّت عليه بحسم "ده مش بتاعنا". شيئًا فشيئا ستتوالى الأحداث التي سيتعرّف الميري من خلالها على هويته الدينية، فلقد استغرب أن صيام زملائه لا طعام فيه بينما صيام أمه يكون فيه الطعام مطهيًا بالزيت، واستغرب من وجود بعض الأسماء غير الشائعة مثل بطرس وميخائيل ويوحنا بين "الأغلبية" في فصله. استغرب سلوك مدرّس اللغة العربية حين اشترط عليه أن يحصل على موافقة والديه قبل أن يسمح له بدخول مسابقة لحفظ القرآن الكريم، واستغرب سلوك مدرّس الرسم حين كتب آيات قرآنية أسفل الفانوس الذي رسمه تعلّمها من زميله الجالس بجواره فسأله المدرّس مبتسمًا في غموض "وهل تعلّم هو- أي زميله- أبانا الذي…؟". إذن وَعَى الميري هويته الدينية بدايةً من التاسعة من عمره، ثم تحوّل الأمر بالتدريج إلى الشعور بما يُطلَق عليه في نظريات الاجتماع السياسي "الحرمان النسبي". وفي مختَلف أعمال الميري تتناثر شذرات من التعبير عن هذا الحرمان، كأن يضطر لحفظ آيات من القرآن في مقرر اللغة العربية والإجابة على أسئلة تخص غزوات الرسول دون أن يكون في النصوص ما يماثل ذلك من الكتاب المقدّس، وإن كان هو على المستوى الشخصي يتمنى إخراج التعليم- كمجال عام يشترك فيه كل المصريين- من الارتباط بدين، أي دين، وتلك نقطة بُحّ فيها صوتنا كلما انتهينا من تحليل مناهج التعليم عمومًا ومنهج اللغة العربية خصوصًا. يقول الميري "ماذا يفعل التلميذ المسيحي؟ التعليم هو مثل التلفزيون والراديو، وهي فضاءات عامة لا يصّح أن تخصّص اهتمامًا أكبر بفئة من السكان فقط لأنهم أكثر عددًا، دون فئة أخرى لأنها أقل عددًا". أو كأن يُلاحِظ أن مجلة "سمير" التي تصدر يوم الأحد تتجاهل الإشارة لعيد القيامة بينما تحتفل بعيد شم النسيم في اليوم التالي مباشرةً. أو كأن يجد الأطفال يغنّون على عربات الكارو احتفالًا بعيدّي الفطر والأضحى "الكنيسة خربت والقسيس مات- إخص عليك يا قبطي يا بتاع البنات". وعندما كبر الميري أخذ يكتشف مساحات أوسع للتهميش، إذ انتقل معه هذا التهميش من مجال التعليم والصحافة والحياة الاجتماعية، إلى مجالات الجغرافيا والسلطة والعمل. اكتشف مثلًا أن خريطة طنطا التي عاش فيها طفولته وجزءًا من شبابه تخلو من مواقع الكنائس الست الموجودة فيها بينما تحفل بمواقع عشرات المساجد بالتفصيل. وحكى له أبوه عن رَفض رئيس قسم المسالك البولية منحه درجة الدكتوراه، ورَفْض عميد الكلية تعيينه فيها رغم استيفائه الشروط، والسبب في الحالتين كانت له علاقة بخانة الديانة. وعلِم أن خاله كميل شاكر كان زميلًا لجمال عبد الناصر في الكلية الحربية وأن جمال فكّر في ضمّه إلى تنظيم الضباط الأحرار، لكن أحد الضباط الآخرين نصحه بألّا يفعل لأن كميل "لا يؤتمن على أسرار لأنه صاحب كاس ويُخشى أن يشرب وينسى نفسه فتراجَع عبد الناصر". أما لولا فتاة الليل التي ارتبط بها عاطفيًا خلال عمله بالملاهي الليلية فلقد جعلته يواجه مسألة تغيير ديانته في حال فكّر في الزواج منها، لكن تغيير الدين بالنسبة له كان غير وارد بالمرة ولا هو كان على استعداد أصلًا لزواجها، وعندما تزوّج لاحقًا من ريتا الفرنسية رفض حتى إتمام الزواج في الكنيسة.
• • •
ظلت الأمثلة الدالة على التهميش تتخلل مختلَف أعمال الميري حتى قرّر هو أن يجمعها كافةً في كتاب تحت عنوان "وهم صاغرون" الصادر عن دار ميريت عام ٢٠٢٠. في هذا الكتاب يوجد ٧٤ عنوانا معظمهم يتناول مظاهر التهميش وكذلك العنف ضد عموم المسيحيين في العالم، من مصر لباكستان وأفغانستان وصولًا إلى فرنسا، وهذه أول ملاحظة على الكتاب وهي أن العنوان لا ينطبق على المضمون بالضبط، فالعنوان الفرعي للكتاب هو "حكايات عن أقباط مصر"، فما علاقة أقباط مصر بقضية شارلي إيبدو مثلًا في باريس أو بقضية الفتاة التي أحرقت نسخة من القرآن في كابول وغير ذلك كثير؟ التطرف الديني قضية عالمية وصولًا إلى نيوزيلندا التي فتح فيها متطرف مسيحي النار على المصلين في أحد مساجدها، والتطرف في كل أشكاله وحيثما وقع مرفوض ومدان ولا يبرر بعضه بعضًا. الملاحظة الثانية على الكتاب أنه جاء كما لو كان تقريرًا عن معاناة المسيحيين حول العالم، وهذا نمط من الكتابة يختلف عن نمط الميري في أعماله السابقة أكانت تصنّف كنوع من السيرة الذاتية أو التراجم أو أدب رحلات، فأنا أظن أن هذا النهج التقريري التجميعي في الكتابة يقلّل من متعة تذوّق الأدب لدى القارئ. أما الملاحظة الأهم على هذا العمل الصادر في عام ٢٠٢٠ فهي أنه لم يشر للتطوّر الجذري في معالجة الملف القبطي في مصر اعتبارًا من عام ٢٠١٤ على مستوى الدستور وعلى مستوى القرارات السياسية، بحيث يمكن القول إنه عدا الإشارة الإيجابية في كتاب "وهم صاغرون" لتغيَر صورة القبطي في الدراما المصرية (قبل ٢٠١٤) في الجزء الذي يحمل عنوان "فيلم هندي"، فإن الكتاب يقدّم للقارئ صورة سوداوية لوضع الأقباط في مصر. وهنا نميّز بين أمرين، أحدهما هو الاتفاق مع الميري في أن هناك فعلًا ما يحتاج إلى تطوير كما في مسألة الوعي الجمعي والخطاب الديني، وما يحتاج إلى إعادة تنظيم بتحييد الفضاءات العامة المشتركة عن الانتماءات الدينية، والآخر هو الاختلاف مع الميري في عدم ملاحظة الحركة التي تتم في الاتجاهين معًا: الثقافي والتنظيمي للتخلص من آثار الحقبة النفطية على الشخصية المصرية.
• • •
إن عادل أسعد الميري هو مؤلف من الوزن الثقيل، جرئ في مكاشفة قارئه بماضيه، وقد أذهلتني على المستوى الشخصي صراحته في "لم أعد آكل المارون جلاسيه" عن بعض تفاصيل علاقته بزوجته الفرنسية ريتا، وهو عميق في تناوله معاناة النفس البشرية وإحباطاتها وتقلباتها التي لا تنتهي. ورغم التعقّد المفترض في هذا اللون من الكتابة، إلا أن لغة الميري العربية السليمة هي لغة شديدة الوضوح ولا تستغلق فيما أظن على أحد، فأهلًا وسهلًا بطابور أعمال الميري يتخّذ طريقه إلى مكتبتي ووجداني وانشغالي بقضية المواطنة .
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات