التقيتُ الملكة إليزابيث مرتين وذلك فى زيارتى لأسكتلندا كممثل الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر، وذلك فى المؤتمر السنوى لكنيسة أسكتلندا والذى يُطلق عليه «المجمع الأعلى« أو «السنودس« للكنيسة الإنجيلية المشيخية بأسكتلندا، وفيه تجتمع كل القيادات الكنسية من الرعاة القسوس (رجال الدين) الذين يمثلون الكنيسة المصلحة ومندوبين عن الكنيسة المصلحة فى البلدان التى تبنت الإصلاح الدينى فى القرون الوسطى؛ ومنها الكنيسة الإنجيلية المشيخية بمصر، وعادة كانت تحضر الملكة اجتماع قيادات الكنيسة وتلقى خطابًا للترحيب بمندوبى الكنائس المصلحة من خارج إنجلترا، وأيضًا كان من البروتوكول استضافة الملكة لأعضاء السنودس فى احتفال ملكى للترحيب بهم، والسنودس هو عبارة عن تجمع لقيادات الكنائس المصلحة فى إنجلترا وأسكتلندا مع ضيوف ممثلين من البلدان الأخرى التى بها كنائس مشيخية، ولقد أذيع فى إنجلترا بعد وفاة الملكة أنها جسدت أسطورة الملك الصالح.
• • •
عادة فى زياراتى لإنجلترا يثور السؤال ما هى الفائدة من وجود القصر الملكى والملك والملكة والأمراء بهذه القصور الفخمة وعظمة القرون الوسطى؟ خاصة أن هذه الفخامة للأسرة المالكة تمثل الملكية دون حكم ملكى رسمى للبلاد، فالذى يحكم إنجلترا رئيسة أو رئيس الوزراء المنتخب من ممثلى الشعب البريطانى، لكن الشعب الإنجليزى البريطانى شعب يتمسك بتراثه منذ أن كانت إنجلترا تحكم العالم ويطلق عليها الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس، والمعنى هنا أن مستعمرات الإمبراطورية البريطانية فى الشرق عندما تغيب عنها الشمس تشرق فى الجزء الآخر من مستعمرات الإمبراطورية فى الغرب، وهكذا لا تغيب الشمس عن أراضى وأملاك الإمبراطورية، وبالفعل كانت بريطانيا فى يوم من الأيام ولعدة قرون تحكم ثلثى العالم، إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية تهاوت هذه الإمبراطورية واستقل الكثير من البلدان عنها، لكن الشعب البريطانى أصر على أن تظل العائلة المالكة كرمز لتلك الإمبراطورية متسعة الأطراف، وهكذا تمسك الشعب البريطانى بالعائلة الحاكمة كنموذج حى للإمبراطورية التى كانت تحكم أكثر من ثلثى العالم وأطلق عليها الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس على الرغم من أن شمسها قد غابت، وقد تمسك الشعب البريطانى بالعائلة المالكة الحاكمة كرمز للتاريخ، وحفظ للتقاليد كشخصية مختلفة عن كل البلدان التى سقطت لديها الإمبراطوريات والملكيات القديمة واستبدلت حكامها بقيادات الجيوش الذين قاموا بالثورات ضد النظام الملكى، وهدموا التراث الملكى والإمبراطورى، ولقد كان بقاء العائلة المالكة فى إنجلترا واستمرارها كنموذج من استمرار الملكية الشعبية التى تخدم شعبها وتعتنى بالمستشفيات والفقراء دون أن تملك، ومع الزمن استمرت هذه التركيبة، الديمقراطية مع الأحزاب التى تحكم بالفعل بانتخابات من الشعب لرئيسة أو رئيس الوزراء الذى يحكم بريطانيا ويحدد سياستها الداخلية والخارجية من خلال وزارات متعاقبة بنظام ديمقراطى، حكم تشترك فيه الأحزاب المتنوعة المشارب السياسية والتوجهات الديمقراطية، والحاكم الحقيقى هو من يشغل منصب رئاسة الوزراء بالانتخاب من البرلمان الذى يحكمه الشعب بأحزابه المتنوعة وفى مقدمتها حزبى المحافظين والعمال. وقد راهن كثيرون أن هذه التوليفة سوف تنتهى بعد عدة سنوات لكن ما حدث هو العكس تمامًا، فالشعب الإنجليزى يعشق نموذج العائلة المالكة التى تذكره بالعراقة والتاريخ التليد (الأصيل)، عائلة مالكة لا تحكم على الأرض، ووزارة منتخبة من الشعب هى التى تحكم، وقد ثبت نجاح هذا النظام بصورة مقبولة ومتميزة، بالطبع هناك أصوات ترتفع من وقت لآخر ضد مخصصات الملك أو الملكة والقصور التى تنفق الكثير من أجل صيانتها، ومن وقت لآخر أيضًا تثار هذه التساؤلات أو غيرها، لكنها تصرفات العائلة المالكة وقدرتها على المزج بين الصورة الرائعة للعائلة والتى يأتى الناس من كل أطراف الدنيا ليروها كنموذج سياحى، ومن الأسباب التى جعلت هذه العائلة تزداد لمعانًا مع الزمن وقبولًا من الشعب شخصية الملكة وهو قدرة الملكة الراحلة على تعزيز مكانتها السامية كملكة على الرغم من معاناتها من مغامرات أسرتها إلا أنها ثبتت رغم انهيار ثلاث زيجات ملكية، وقد وصف المتحدث باسم القصر العام الذى تمت فيه هذه الأحداث بـ«العام المرعب« وبفضل سلوك الملكة وصمودها أسهمت الملكة إليزابيث فى تعريف أوروبا ومناطق كثيرة من العالم معنى الملكية الدستورية، فبالرغم من كل هذه المشاكل التى اجتازتها الأسرة المالكة إلا إنها استطاعت أن تتفوق على الملكيات فى الدول الإسكندنافية والتى ضغطت شعوبهم عليهم ليقلصوا مظاهر البذخ فى ممالكها إلى أدنى مستوى بعكس الملكة التى حافظت بفخر على مظاهر الملكية كما القرون الوسطى كاملة متمثلة فى العربات المذهبة والخوذات المصنوعة من جلد الدب وزى الحرس الملكى المصنوع غالبيته من الجلد، وقد أقامت الملكة إليزابيث علاقات متينة مع رؤساء الوزراء وخاصة مارجريت تاتشر، وأثبتت الملكة إليزابيث حقيقة وليس خيالًا أن الحكم بوصفه مُلكًا صالحًا يسمو فوق فوضى السياسة الرديئة.
• • •
لقد ماتت الملكة إليزابيث، تلك الملكة التى ولدت فى ٢١ إبريل ١٩٢٦م وتوفيت فى ٨ سبتمبر ٢٠٢٢م وتعد أطول ملوك بريطانيا عمرًا وصاحبة أطول فترة للملك كما تتمتع بقيمة رمزية عالية.
لقد كانت إليزابيث الملكة الدستورية لأربع عشرة دولة من مجموع ثلاثة وخمسين من دول الكومنولث التى ترأستها، كما ترأست كنيسة إنجلترا الإنجليكانية منذ ٦ فبراير ١٩٥٢م حتى وفاتها فى ٨ سبتمبر ٢٠٢٢م، وكانت ملكة للمملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزلندا ورئيسة الكومنولث وملكة ١٢ دولة أصبحت مستقلة منذ انضمامها.
تولت إليزابيث الثانية عرش بريطانيا على مدى سبعة عقود وقد تميزت فترة حكمها بانفتاح أكبر على العالم.على مدى عقود ظلت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية رمزا للمملكة المتحدة منذ أن اعتلت العرش عام ١٩٥٢ فقد كانت الابنة الكبرى للملك جورج السادس. وفى عام ١٩٥٢م تولت الملكة إليزابيث الحكم فى ظل ظروف صعبة جدا بعد وفاة والدها وتنازل أو تخلى عمها عن العرش.
منذ جلوسها على العرش اتسمت حقبة الملكة إليزابيث بالانضباط والشعور بالواجب، وتلقت الملكة تعليمًا لائقًا فيما انتشرت نكتة بين الشعب البريطانى أنها تدربت على الميكانيكا وقيادة الشاحنات خلال الحرب العالمية الثانية فيما كانت الفرد الوحيد فى العائلة المالكة الذى خدم فى الجيش لفترة من الزمن.
تزوجت إليزابيث فى ٢٠ نوفمبر ١٩٤٧م من الأمير فيليب مونتباتن الذى تعود أصوله إلى الأسرتين الملكيتين اليونانية والدنماركية وأصبح ضابطًا فى البحرية الملكية وحصل على لقب دوق إدنبره.
كان يتعين عليها حضور ٥٠٠ موعد رسمى كل عام ما جعلها أكثر رؤساء الدول شهرة فى التاريخ إذ قامت بمئات الزيارات الملكية حول العالم على متن اليخت الملكى الشهير الذى أسمته هى «بريطانيا« فى جولة استمرت ٦ أشهر بين عامى ١٩٥٣م، ١٩٥٤م.
كانت تشتهر بحبها للخيول والكلاب والأزياء ذات الألوان الرائعة.وأخيرا عاصرت الملكة قرابة ١٥ رئيس وزراء بريطانى بداية من ونستون تشرشل إلى ليز تراس.