جورج.. ميلاد.. مكرم - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جورج.. ميلاد.. مكرم

نشر فى : الجمعة 16 يونيو 2023 - 9:00 م | آخر تحديث : الجمعة 16 يونيو 2023 - 9:00 م

فقدت مصر مؤخرًا واحدًا من مواطنيها المخلصين لترابها، المعجونين بطينها، المناهضين لكل تدخل أجنبى خارجى، وكل تعصب دينى داخلى أو خارجى، هؤلاء الثلاثة المذكورون فى عنوان هذا المقال والذين يذكرهم جيلنا بداية من مكرم عبيد وصولًا إلى جورج إسحق مرورًا بالحلقة الوسطى ميلاد حنا، جميعهم وقفوا عبر التاريخ ضد جماعة الإخوان وتطرفهم، ووقفوا أيضًا ضد التعصب الدينى المسيحى المتطرف، والتدخل الأجنبى بحجة حماية الأقليات، وآمنوا أن مصر لكل الشعب المصرى بغض النظر عن دينه (يهودى ــ مسيحى ــ مسلم) وعن أجناسه (امرأة ــ رجل)، وعن أصوله (فرعونية ــ عربية ــ مصرية حديثة).
إنهم يمثلون مصر التى احتوت الجميع بلا تمييز، وقد قصدت أن أكتب أسماءهم كسلسلة واحدة رغم اختلاف أجيالهم فجورج هو جورج إسحق، وميلاد هو ميلاد حنا، ومكرم هو مكرم عبيد، وثالثهم هو أقدمهم تاريخيًا والذى كان سكرتيرًا لحزب الوفد العظيم وصاحب الجملة المأثورة «أنا مسيحى الدين مصرى الوطن».
وقد عين ميلاد حنا كوزير للدولة حينذاك، وكانت له صولاته وجولاته لأجل تحقيق الديمقراطية والمساواة، والذى قام بدور رائع عندما اشتد الخصام بين رئيس الجمهورية أنور السادات من ناحية ورئيس الكنيسة فى ذلك الوقت الأنبا شنودة الثالث من الناحية الأخرى، فقام د. ميلاد حنا ود. صموئيل حبيب رئيس الكنيسة الإنجيلية بمصر حينئذ، والذى كان له كيان سياسى واجتماعى وأدبى متميز بمحاولة إقامة حوار وتقارب للآراء بين رئيس الجمهورية الأسبق أنور السادات حينذاك، والبابا شنودة رئيس الكنيسة القبطية السابق، وقد نجحا فيما أرسلا إليه، وأعاد السادات البابا شنودة إلى كرسيه بكل كرامة ومحبة وعدالة.
كان للعلاقة بين الكنائس الأرثوذكسية والإنجيلية بقيادة سياسية دينية حكيمة ومعاصرة الأثر الرائع فى تهدئة الأجواء، حيث كان الرؤساء سواء رئيس الدولة أنور السادات، أو رؤساء الكنائس من أقوى الشخصيات سياسيًا وفكريًا وعقائديًا، فكان البابا شنودة من ناحية رئيسًا للكنيسة الأرثوذكسية الأكثر عددًا والأعرق تاريخًا، والقس د. صموئيل حبيب من الناحية الأخرى رئيس الطائفة الإنجيلية المُصلحة وكان لهما تأثير قوى وفعال مع رئيس الجمهورية، وقد عُقدت عدة لقاءات بهذا الشأن، وكنت أصغر الأعضاء سنًا فى هذه اللقاءات، حيث كان القس د.صموئيل حبيب يُصر على ضم الشباب الواعد فى قمة السلم الكنسى كلما أمكن ذلك، مما أثمر عن مجموعة قادرة على القيادة فى المستقبل بنجاح وتطور واضحين.
• • •
هنا يبرز السؤال هل الشعب المصرى شعب متدين؟ لقد تعودنا أن نسمع ونردد دائمًا من قياداتنا الدينية الإسلامية والمسيحية... إلخ، أن الشعب المصرى شعب متدين، فهل هذه المقولة صحيحة؟ وهل تَدينه واضح على الأرض؟ وإذا كان هذا هكذا فهل هو حقيقى أم شكلى؟!

دعونا – أعزائنا القراء – نناقش مقولة «الشعب المصرى شعب متدين بالفطرة» ونبدأ بالقول إذا كان الشعب المصرى شعبًا متدينًا بالفطرة فإلى أى مدى يمكن أن نتعرف على تاريخ الأديان السماوية التى تعتنقها الغالبية الإسلامية من ناحية، أو المسيحية أو اليهودية، وذلك فى ضوء معرفتنا بتاريخ وطننا، وإذا كنا نريد أن نتأكد من هذا الأمر فعلينا أن نسأل أى شخص يدين بالمسيحية أو الإسلام أو خلافه، وإن وجد هذا الإنسان فهل يعلم بالتدقيق تاريخ الدين الذى ينتمى إليه؟ وإن كان يعلم التاريخ فهل يعرف تفاصيل الكتب الدينية والتفاسير المتعددة والمتنوعة للقرآن الكريم والكتاب المقدس والتوراة... إلخ؟! وهى كثر وبلغات مختلفة ومتنوعة، وإن كان لا يعلم على العموم وبالإحصائيات فكيف نقول إننا شعب متدين؟
وإذا كنا متدينين حقيقة كمسيحيين أو مسلمين أو خلافه لماذا لا نتحاور مع الأطراف العلمانية والمثقفة؟ ولماذا هناك توتر مستمر بين رجال الدين فى كل الأديان من ناحية والتيارات العلمانية من الناحية الأخرى؟! بل ورفض معظمهم المستمر للحوار؟ ولماذا يجمع معظم المتدينين من كل الأديان، على رفض الحوار مع التيارات العلمانية أو أتباع الأديان التى لا ينتمون إليها، أو حتى الحوار بين المذاهب داخل الدين الواحد واعتبار أن من ينادى بذلك فكره سلبى ويريد تخريب الأديان؟
هناك ملاحظة عند معظم المتدينين من كل الأديان والطوائف هى رفضهم أو لنقل تحفظهم ــ على الأقل ــ على ما يسمى الإبداع الفكرى، أى رفض كل فكر تجديدى فى تفسير الدين، واعتباره تطاولًا على التراث الدينى، وذلك فى الوقت الذى فيه لم يدَّع الفقهاء واللاهوتيون السابقون أنه لا توجد أجيال جديدة بعدهم فى التفسير، وأن التجديد يقتصر على مجرد طُرق الوعظ والمعانى، وبالطبع هذا ليس تجديدًا أو إبداعًا فكريًا أو فقهيًا أو لاهوتيًا، من الواضح أنه أمام التقدم العلمى والفكرى المتسارع برزت أزمة هوية حادة فى الأجيال الجديدة فالأجيال الجديدة تتساءل: من نحن؟ أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟ وعندما تثار هذه الأسئلة تأتى الإجابات.
إن هوية الإنسان المسلم هى الإسلام وهوية نظيره المسيحى المسيحية... إلخ، هذا فى الوقت الذى فيه يعتبر معظم رجال الدين فى كل الأديان أنهم هم «حفظة الإيمان» ــ كحال أوروبا فى القرون الوسطى ــ وأنهم يقومون بكل العمل، وذلك عكس أولئك الذين يحاولون تقديم أفكار جديدة للإصلاح الدينى، ودليلهم أن الشعب العادى غير قادر على الاهتمام بتفسير الكتب المقدسة، ولا بمناقشة الأفكار الفقهية أو اللاهوتية الجديدة، فالشعب ــ فى نظرهم ــ جاهل ومنشغل عن تفسير الكتب المقدسة والعبادة... إلخ.
هذا فضلًا عن تردد المؤسسات الدينية أمام تساؤلات الأجيال الجديدة وعدم تقديم إجابات واضحة مثل: كيف نفصل بين ما هو زمنى ــ بمعنى مادى ــ وما هو روحى أو دينى؟ وأيضًا الفصل بين ما هو زمنى ــ بمعنى عصرى أو الآن ــ وبين ما هو أبدى أو أخروى أى ليس الآن؟
كذلك هنالك اختلاف حول تفسير أو تعريف ماذا يقصد الدين بالأرض التى نعيش عليها كبشر؟ وما هو تعريفنا للسماء؟! وأين الحدود عندما نتحدث عن ملكوت الله والجنة والنار؟... إلخ.
هناك أيضًا توتر واضح بين المجتمع العلمانى من ناحية وبين المؤسسات الدينية سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو خلافه من الناحية الأخرى، ومازالت العلاقة بين المؤسسات الدينية من ناحية والمجتمع العالمى من الناحية الأخرى غير مطروحة كقضية فقهية أو لاهوتية أو تاريخية فى ذات الوقت، فهناك مسافة بين الوعى الفقهى (اللاهوتى) والوعى التاريخى، فنحن غالبًا أمام ثنائية تظهر فى اعتبار أن المؤسسة الدينية وكأنها فى صراع مع العالم بوصفه مليئا بالأشخاص المنحرفين أخلاقيًا، أو على الأقل فى مخاصمة مع العلمانية.
• • •
إذن كيف نحل مسألة الهوية؟! الهوية الوطنية فى كل أمّة هى الخصائص والسمات التى تتميز بها، وتترجم روح الانتماء لدى أبنائها وبناتها، ولها أهميتها فى رفع شأن الأمم وتقدمها وازدهارها، وبدونها تفقد الأمم كل معانى وجودها واستقرارها، بل يستوى وجودها من عدمه، وهناك عناصر للهوية الوطنيّة لا بد من توفرها، وقد يختلف بعضها من أمّة لأخرى.
إن من يشتركون فى الهوية الواحدة غالبًا يضمهم موقع جغرافى محدد وتاريخ بعينه، فالتاريخ المشترك الذى يربط بين الأشخاص المشتركين فى الهوية الوطنية الواحدة، هو الأحداث التى مرت بآبائهم وأجدادهم كشعب بصفتهم الجماعيّة. ويربطهم كذلك رباط اقتصادى واحد، ونظام مالى واحد، كنظام العملات الموحد، ونظام التسعيرة الموحد لبعض السلع الاستهلاكيّة. ويجمعهم العلم الواحد، وهو الرمز المعنوى الذى يجمع كل أبناء وبنات الشعب الواحد والقضيّة الواحدة، وهو شىء مادى ملموس، له رسم وشكل محدد بألوان معينة، ولكنه يرمز إلى قيمة معنويّة، هى الهوية الوطنية والانتماء للأرض، والحقوق المشتركة، حيث يتمتع من تجمعهم الهوية الوطنية الواحدة بالحقوق ذاتها، كحق التعليم، وحق التعبير عن الرأى، وحق الحياة بكرامة وعزة على أرضهم، بل وحق الملكية، وحق البناء فوق أرضهم، وحق العمل، وغير ذلك من الحقوق التى تجسد معانى الهويّة الوطنية.
أما الواجبات فهى واجبات فردية وجماعية، والتى يتعين على المجموع الوطنى القيام بها، إمّا بصفة فردية، كالأفراد كل فى مجال عمله وتخصصه ونشاطه، وإمّا بصفتهم الجماعية، وذلك مثل ما يتعين على المؤسسات القيام به نحو مواطنيها ومواطناتها، وفق آليات محددة، كمؤسسات التربية والتعليم، ومؤسسات الصحة والبيئة، والاقتصاد، والبنى التحتيّة، كسلطة المياه، ووزارة العمل، والدفاع، وسلطة المواصلات، والسلطة الحاكمة بكل مؤسساتها التشريعيّة والتنفيذية، وغير ذلك من مسميات وطنية تحمل روح العمل الجماعى لخدمة الوطن والمواطن والمواطِنة، فهذه كلها بعملها والتزامها به على خير وجه تعبر عن الهوية الوطنيّة.
إنّ للوعى بالهوية الوطنية والالتزام بها آثارا عظيمة، تنعكس على الفرد والمجتمع والوطن بشكل عام، ولا سيّما متى قام الكل بواجباته خير قيام تجاه الوطن، فثمرات ذلك أكثر من أن تحصى، تتمثل قوة فى النسيج الاجتماعى، تعجز عن اختراقه مكائد الطامعين وأهواء الفاسدين، ونهضة فى العلم والمعرفة، فى شتى المجالات، وقوة فى الاقتصاد، واستغلال جيد للعقول المبدعة، وتطوير دائم وبناء للوطن، بل واللحاق بركب الحضارة، وريادة فى مصاف الأمم، وهيبة للوطن والمواطن والمواطِنة، فإذا اعتز الكل بهويته الوطنية، أحسن فهمها، وأجاد لغة التعبير عنها.
• • •
إننا عندما نتحدث عن حضارة ما نعنى بها لغة وثقافة وقيما بذاتها، فهل نحن نعيش قيم الحضارة الشرقية العربية المصرية أم أننا متغربون فى المكان والزمان؟!

إن الهوية الدينية (إسلامية ــ مسيحية ــ يهودية) تتأكد من خلال حضور الفكر الإلهى فى طبيعة الإنسان، وإلا ما كنا نقول أن الإنسان متدين بطبيعته بغض النظر عن الدين الذى ينتمى إليه، والتحدى هنا ليس فى مجرد وجود إطار دينى فقهى لاهوتى بقدر ما هو عيش وتجسيد لهذا الحضور، هذا العيش هو فى الأساس موقف تحول فى كيان الإنسان الداخلى، وهذا يتحقق بالانتماء إلى حضارة بعينها ومكان محدد دون اغتراب على أى وجه كان.

أستاذ مقارنة الأديان

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات