غزة.. والرأي العام الغربي.. ونحن - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غزة.. والرأي العام الغربي.. ونحن

نشر فى : السبت 16 مارس 2024 - 9:35 م | آخر تحديث : السبت 16 مارس 2024 - 9:35 م
فى التاسع والعشرين من مايو 2021، تفضلت «الشروق» الغراء بأن نشرت على نفس هذه الصفحة مقالًا لكاتب هذه السطور تحت عنوان «التَحَوُّر فى القضية الفلسطينية». كانت فحوى المقال أن جينات القضية تحورت فَحَوَّلَتها من مجرد قضية وطنية للشعب الفلسطينى، ساندته فيها الدول العربية حسب طاقاتها وسياساتها المتغيرة، إلى قضية إنسانية تدافع عنها وتساندها بل وتتحمس لها مجموعات عديدة من البشر فى كل مكان. هذه المجموعات انتشرت حتى فى دول أوروبا الغربية وفى الولايات المتحدة، المعينة لإسرائيل على نشأتها والسند الأساسى لها فى العقود الثمانية الأخيرة. وردت فى ذلك المقال أمثلة متعددة على تحركات المجموعات المذكورة، الدالة على التحور.
الحرب المتواصلة التى تشنها إسرائيل بلا هوادة على غزة منذ خمسة شهور كانت وما زالت فرصة جديدة لدفع التحور قفزات إلى الأمام. نورد فيما بعد أمثلة قليلة على هذا التحور. فى أوروبا الغربية، حظرت ألمانيا وفرنسا المظاهرات المنددة بالحرب على غزة والمسانِدة للشعب الفلسطينى فيها، ومع ذلك سارت المظاهرات فى عاصمتيهما. فى ألمانيا تظاهر ألمان يهود منددين بالحرب. فى فرنسا نُظِّمَت مؤتمرات فى جامعات للتضامن مع غزة والشعب الفلسطينى كان آخرها مؤتمر فى معهد العلوم السياسية العريق والشهير فى باريس أحدث جلبةً عندما استنكرته جماعات مساندة لإسرائيل واتهمت إدارة المعهد بالتقاعس ومعتبرةً أنها ما كان ينبغى أن تسمح بالمؤتمر أساسًا. مظاهرات سارت فى مدن إسبانية، وعشرات الآلاف مشوا فى العاصمة البريطانية، لندن. فى البرلمان الإيرلندى وفى إيرلندا عمومًا ارتفعت الأصوات المدينة لإسرائيل والمطالبة بوقف السلاح عنها وفرض العقوبات عليها. فى هولندا حظرت محكمة على الحكومة الهولندية تصدير قطع غيار الطائرات المقاتلة أمريكية الصنع إلى إسرائيل.
وعندما زار وفد إسرائيلى يترأسه رئيس إسرائيل أمستردام فى الأسبوع الماضى لافتتاح متحف فيها عن المحرقة لاقى استقبالا مهينا من جماعات معتبرة من الهولنديين وجهت أنظار الوفد وجهة لاهاى، أى وجهة محكمة العدل الدولية التى قضت بإجراءات احتياطية لتقى سكان غزة من خطر الإبادة الجماعية. يلاحظ أن هولندا هذه كانت من أشد أنصار إسرائيل إبان حرب أكتوبر فى سنة 1973، فحظرت الدول العربية المصدرة للنفط تصدير النفط إليها وحدها مع الولايات المتحدة، إلى جانب جنوب أفريقيا وروديسيا والبرتغال، وثلاثتهم كانوا بعد يرزحون تحت حكم أنظمة عنصرية أو استعمارية. أكبر صندوق للمعاشات التعاقدية فى النرويج سحب استثماراته فى 16 شركة إسرائيلية مرتبطة بالمستعمرات فى الضفة الغربية، والصندوق السيادى النرويجى نفسه يدرس كذلك سحب استثماراته من إسرائيل. فى الولايات المتحدة، مدينة فى شمال كاليفورنيا سحبت استثماراتها من إسرائيل. أمريكيون يهود يتظاهرون ويعلنون «ليس باسمنا»، أى أنهم يرفضون أن تشن إسرائيل الحرب باسم اليهود مدعية أنها تدافع عنهم كلهم. مجموعات من الطلبة والأساتذة فى جامعات أمريكية يطالبون بوقف الحرب فى غزة ويعلنون تضامنهم مع الشعب الفلسطينى. فنان وموسيقى وكاتب أمريكى يهودى واسع التأثير، هو مورجان باسيتشيس، يلقى خطابًا علنيًا يدافع فيه عن حقوق الشعب الفلسطينى ويهاجم إسرائيل والصهيونية ذاتها. جماعات تقدمية أمريكية تعلن أنها ستواجه اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة (إيباك) واسعة النفوذ، مرهوبة الجانب، التى خصصت مائة مليون دولار لشن حملات ضد أعضاء الكونجرس الذين تجرأوا وانتقدوا إسرائيل.
مواطنة أمريكية يهودية تكشف على التلفزيون عن تلقين الأطفال والشباب اليهودى الأمريكى، وهى منهم، كراهية العرب وازدرائهم منذ نعومة أظفارهم وعن البرامج التى يتعرضون لها فى زياراتهم المنظمة لإسرائيل، وتقول إنها وقد برأت من آثار التلقين المذكور ستخصص ما بقى من عمرها لمحاربة هذا التلقين ومحتواه. فى حفل توزيع جوائز الأوسكار فى هوليود فى الأسبوع الماضى أيضا تقلّد كثير من نجوم صناعة السينما «دبوسًا» مكتوبًا عليه «أوقفوا الحرب». وفى الحفل، المخرج البريطانى اليهودى، جوناثان جليزر، الفائز بأوسكار عن فيلم موضوعه محرقة اليهود فى معسكر «أوشويتز« النازى، أعلن رفضه لاختطاف إسرائيل للدين اليهودى وللمحرقة، وتأجيجها للصراع فى الشرق الأوسط معتبرا أن الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية هو السبب فى معاناة كثير من الأبرياء. مجموعات من الأمريكيين اليهود تطالب بوقف الحرب. ستة وثلاثون حاخامًا أمريكيًا يقتحمون قاعة مجلس الأمن ويطالبون بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة. حاخامات يذهبون إلى التنديد بالصهيونية وبمجرد وجود إسرائيل. مواقف رجال الدين اليهود الأصوليين المؤسس على فهمهم للدين اليهودى ليس جديدًا. الجديد هو أنه وجد طريقه إلى وسائط الاتصال فوصل بموقفه إلى جمهور أكبر من ذلك الذى كان يصل إليه من قبل. الشىء نفسه يُقال عن بعض الأكاديميين اليهود، بل والإسرائيليين، المنددين بإسرائيل أو بالسياسات الإسرائيلية منذ زمن بعيد من أمثال نورمان فنكلشتاين وإيلان بابيه.
• • •
المنددون بإسرائيل وبحربها على غزة ينقسمون إلى ثلاث فئات متداخلة. الفئة الأولى أساس تنديدها هو الحرب فى غزة والمطالبة بوقفها، التى لا تستجيب لها إسرائيل. الفئة الثانية أساس تنديدها هو احتلال إسرائيل للأراضى الفلسطينية وحصارها لغزة وإقامتها للمستوطنات فى الضفة الغربية. هذا القسم الذى بدأ التحور المذكور أعلاه يشدد على حقوق الشعب الفلسطينى فى الحياة الكريمة بما فى ذلك حقه فى إقامة دولته المستقلة التى تعيش إلى جانب إسرائيل. القسم الثالث، وأغلبه من اليهود أكثر راديكالية، هو يهاجم الصهيونية نفسها، ويعتبرها أيديولوجية عنصرية، جوهرها التمييز، وهى بذلك السبب فى حرمان الفلسطينيين، وفى معانتهم ومعاناة اليهود معهم.
ليس فيما سبق ادعاءٌ بأن المنددين بالسياسات الإسرائيلية وبإسرائيل وبالصهيونية أصبحوا يشكلون أغلبية فى بلدانهم. المهم هو النمو الملموس فى صفوفهم والذى لم تنتف ظروف الاستمرار فى ارتفاع معدله. بيانان مفيدان فى الدلالة على أهمية ما حدث حتى الآن من التوسع فى صفوف المنددين. البيان الأول هو تحذير زعيم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس الشيوخ الأمريكى، تشاك شومر، فى قاعة المجلس يوم الخميس 14 مارس بأن إسرائيل لا يمكن أن تستمر فى الوجود إن أصبحت دولة «منبوذة«. يذكر أن شومر من أشد المحبين لإسرائيل وأنه لا ينتمى إلى أى من الفئات الثلاث المذكورة. البيان الثانى هو ردّ الفعل العصبى لإسرائيل وللجماعات المؤيدة لها، التى صارت تحاصر حرية التعبير بملاحقة من يناصرون الشعب الفلسطينى وقضيته، بما فى ذلك فى الجامعات الأمريكية حتى وصلت إلى الإطاحة باثنين من رؤساء جامعات القمة فيها.
لاتساع صفوف المنددين فى أوروبا الغربية والولايات المتحدة ديناميكياته الخاصة، لكن ما الذى علينا نحن أن نفعله فى بلداننا، أو لا نفعله، حتى يستفيد الشعب الفلسطينى من هذا الاتساع فى نيل حقوقه، بما فى ذلك حقه فى تقرير المصير؟ نيل الشعب الفلسطينى لحقوقه هو ما يكفل الأمن والاستقرار المنشودين لمنطقتنا ومن يعيشون فيها. أول ما علينا أن نفعله هو أن نتشدد فى التمييز بين اليهودية والصهيونية. إحقاقا للحق، لم تنزلق أى دولة عربية فى أى وقت من الأوقات، وأيًا كان نظام الحكم فيها، إلى المساواة بين اليهودية والصهيونية واعتبار مجمل اليهود مسئولين عن إقامة إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطينى ثم احتلال أراضٍ عربية فى غير فلسطين. إن كان لم يبق إلا قليل جدًا من اليهود فى البلدان العربية فهذا مما يؤسف له، غير أن السبب فيه كان ادعاء إسرائيل أنها ممثلة اليهود كلهم، فى الوقت الذى اعتدت فيه على الدول العربية كما حدث فى مصر فى سنة 1956.
انتصارات إسرائيل على العرب جعلتهم يظنون أنها تصيب فى كل ما تفعل وتقول. هكذا فعلى الرغم من أن العرب لم يقولوا قط أن اليهودية والصهيونية هما الشيء ذاته، فإنه داخلهم شك بسبب ما تقوله إسرائيل عن تمثيلها لكل اليهود. والنتيجة مغادرة اليهود للبلدان العربية. يضاف إلى ما سبق، سبب مهم آخر هو اجتذاب إسرائيل لليهود العرب بطرق شتى حتى تغذى نفسها بالسكان فى السنوات الأولى لنشأتها. المهم الآن هو العمل المستمر على التمييز بين اليهودية والصهيونية وأن تكف بعض الجماعات الموجودة فى بلداننا، وهى ليست كثيرة، عن استخدام مفردات وروايات فيها عداء لليهود كيهود. تتميز المجتمعات العربية بتعدد الأديان والمذاهب والملل فيها، وهو ما يعلى من قدرها كمجتمعات بشرية تعايش سكانها عبر القرون أيا كانت أصولهم أو معتقداتهم. المجتمعات المدنية ومراكز البحث المتمتعة بحرية البحث والمبادرة والابتكار ينبغى أن تتفاعل مع قطاعات الرأى العام الغربى والدوائر الأكاديمية الغربية المنددة بإسرائيل وسياساتها. إلى ذلك، يبقى التفاعل مع مكونات فى المجتمع الإسرائيلى نفسه ترفض حرب الإبادة التى تشنها إسرائيل، بل والاحتلال والمستوطنات، كذلك العضو فى الكنيست، عوفير كاسيف، الذى أعلن تأييده لجنوب أفريقيا فى القضية التى رفعتها على إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وكادت الأغلبية تطرده منه فى فبراير الماضى، والصحفى جدعون ليفى.
• • •
الرأى العام الغربى، ومن ورائه الرأى العام العالمى، والمجتمع الحكومى الدولى، والمجتمع المدنى الدولى، والعالم الأكاديمى، كلهم فاعلون سيؤثرون فى اتخاذ القرار الدولى المنشود، قصر أمد اتخاذه أو طال.
المأساة مروعة، فغير الدمار وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى، انهار النظام العام فى غزة، وسكانها يتعرضون لحملة تجويع ممنهجة. ومع ذلك، فمن وسط المأساة يمكن أن ينبثق الأمل.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات