الواقعية والمثالية بشأن غزة - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الواقعية والمثالية بشأن غزة

نشر فى : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:15 م

فوق شهر مضى وقصف غزة مستمر. الضحايا اقتربوا من الأحد عشر ألفا والجرحى من الثلاثين ألفا. مسألتان قيد التفاوض والتصور والمطالبة، الأولى وقف إطلاق النار، والثانية مستقبل غزة وإدارتها، ومعه مستقبل القضية الفلسطينية. نستعرض فى هذا المقال المواقف من المسألتين ونقدر إن كانت واقعية أو مثالية تتعلق بأمنيات.
• • •
موقف إسرائيل من وقف إطلاق النار، كما عبر عنه رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، هو فى تكثيف إطلاق النار، وفى المطالبة، كشرط لإيقافه، بالإفراج عن مواطنيها ومواطناتها الذين تحتجزهم «حماس» والتنظيمات التى شاركتها عملية السابع من أكتوبر. إسرائيل تعلن أنها بقذفها العنيف وبلا هوادة لغزة تريد القضاء قضاء تاما على «حماس» بحيث لا تكون لها كلمة لا فى حاضر غزة ولا فى مستقبلها. فى سبيل تحقيق هدفها المعلن، لا تكترث إسرائيل لا بحياة السكان المدنيين، ولا بالمواقع التى يحميها القانون الدولى الإنسانى مثل المستشفيات.
الولايات المتحدة تشاطر إسرائيل موقفها، فوزير خارجيتها ــ أنتونى بلينكن ــ يرى أن وقف إطلاق النار الآن يعنى تمكينا لحماس من أن تعود لتكرار عملية السابع من أكتوبر، وهو الشىء غير المقبول لها ولا لإسرائيل ولا لحلفائها الغربيين. غير أنك تجد تناقضا فى موقف إسرائيل والولايات المتحدة هذا، فمع إصرارهما على القضاء على «حماس» يتنقل بلينكن ومدير المخابرات المركزية الأمريكية، وليام بيرنز، بين عواصم المنطقة، بما فيها الدوحة والقاهرة بالذات، لبحث حل لمسألة المحتجزين حتى تطلق «حماس» سراحهم. زعماء «حماس» زاروا الدوحة والقاهرة أيضا. التفاوض من حيث المبدأ يعنى البحث عن حلول وسط. التناقض المذكور بين هدف القضاء على «حماس»، والتفاوض غير المباشر معها يكشف عن فساد الأساس المنطقى لسياسة إسرائيل والولايات المتحدة بشأن غزة. من جانب، يبغى الإسرائيليون والأمريكيون التخلص تماما من «حماس»، وإن كان ذلك بتدمير غزة وقتل الآلاف المؤلفة من سكانها، وهو الحل المثالى من وجهة نظرهم، ومن جانب آخر يتخذون مقاربة واقعية فيتفاوضون مع «حماس» بواسطة أطراف ثالثة.
الأمريكيون يختلفون اختلافا ثانويا مع إسرائيل بشأن إطلاق النار. اخترعوا مفهوما جديدا، لا سابقة عليه، يمكن ترجمته إلى العربية، من الناحية اللغوية، «بالتوقف الإنسانى» أو، يا للمرارة، «بالاستراحة الإنسانية»! ليس ما أراده الأمريكيون «هدنة إنسانية». الأمريكيون أرادوا أن تتوقف النيران لفترة ثلاثة أيام، لأسباب إنسانية. لا توجد هدنة فى الحروب تحدد لها فترة أيام معدودة. تذكر الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل منذ سنة 1949 والتى لم تنكسر مع مصر إلا فى سنة 1956 ثم فى سنة 1967. ثم إن المصطلح الإنجليزى المقابل «لهدنة» معروف وهو غير ذلك الذى استخدمه الأمريكيون فى مفهومهم المستجد والذى أيدهم فيه عدد غير قليل من حلفائهم الغربيين. فضلا عن الأسباب الإنسانية التى ذكرتها الولايات المتحدة لدعوتها «للتوقف» عن أو «الاستراحة» من إطلاق النار، فإن الشك قليل فى أن موقف أغلبية المجتمع الدولى الحكومى المتمثل فى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعى «إلى وقف إطلاق النار الإنسانى»، ومواقف حركات ومنظمات المجتمع المدنى العالمى الداعية إلى وقف إطلاق النار، هى مما جعل الولايات المتحدة تخرج بفكرتها المستجدة. إسرائيل من جانبها، وعلى الرغم من مناشدات الولايات المتحدة، لم تقبل إلا «باستراحة إنسانية» مدتها أربع ساعات يومية فقط تنذر سكان غزة بمواقيتها قبل أن تبدأ بثلاث ساعات. الواقعية تستدعى إدراك أن الولايات المتحدة لا تقوى على إسرائيل، وأنها، فى إطار توزيع القوى السارى فيها، لا تستطيع أن تفرض شيئا على إسرائيل. أوراق اللعبة الشهيرة، وهى ليست لعبة، ليست كلها إلا واحدة فى يد أمريكا.
أغلبية تعدت ثلثى (67,6%) أعضاء الأمم المتحدة المصوتين فى الجمعية العامة صوتت لصالح القرار الذى تقدمت به الأردن وتبنته معها 39 دولة كلها من الجنوب العالمى، باستثناء روسيا. 121 دولة صوتت لصالح القرار، أغلبيتها الساحقة من دول الجنوب، منها، بخلاف الدول العربية، 32 دولة من إفريقيا، و25 دولة من آسيا، و17 دولة من أمريكا اللاتينية والكاريبى، وذلك إلى جانب 19 دولة من مجموعة الدول الأوروبية وغيرها، منها ثمانى دول أعضاء فى الاتحاد الأوروبى، من بينها سبعة حلفاء للولايات المتحدة أعضاء فى حلف شمال الأطلسى. لم يصوت ضد القرار، وهو ما يعنى ضد وقف إطلاق النار الإنسانى، إلا 14 دولة تمثل نصفا فى المائة من سكان العالم (0.5%)! سكان الولايات المتحدة وحدها يمثلون 0.4% من سكان العالم، ما يعنى أن سكان الثلاثة عشر دول الأخرى التى رفضت القرار معها لا يمثلون إلا 0.1% من سكان العالم. مواقف المجتمع الدولى من وقف إطلاق النار فى غزة واضحة بليغة لا تحتاج إلى تعليق. صحيح أن قرارات الجمعية العامة هى مجرد توصيات ولكنها تمثل الشرعية الدولية، خاصة إذا ما اعتمدت بمثل الأغلبية التى تتعدى الثلثين من الأعضاء تلك فى مقابل الأقلية المذكورة. هذه الشرعية ومواقف المجتمع الدولى ليست غريبة على جولة وزيرة الخارجية الأمريكية فى الأسبوع الماضى على إسرائيل والأردن والضفة الغربية والعراق. الدول الحليفة المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية مميزة وهى أكبر المستفيدين، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من حوكمة النظام الدولى الذى صممته فى أعقاب انتصارها، والمتمثل فى الأمم المتحدة ومنظومتها. تجاهل هذه الشرعية مرة بعد الأخرى سيجعل حوكمة النظام الدولى برمتها تسقط. أخذ الشرعية الدولية ومواقف المجتمع الدولى، وتأثيرها على الولايات المتحدة بجدية، ليس مثالية ولا تعلقا بأمنيات، وإنما هو الواقعية بعينها.
• • •
الولايات المتحدة، وبعض الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، ومراكز البحث فيها انكبت على ما بعد الحرب فى غزة، على من يدير القطاع ومن يحفظ الأمن فيه. تارة تضطلع بالإدارة الدول العربية لفترة انتقالية، وتارة أخرى الإدارة فى المرحلة الانتقالية دولية الطابع. الحديث أحيانا عن قوات عربية وفى أحيان أخرى عن قوات دولية فى غزة، وإن لم تكن واضحة وظيفة هذه القوات أو تلك، خاصة وأن نتنياهو خالف ما يصدر عن الأمريكيين وبعض الأوروبيين معلنا منذ أيام أن إسرائيل ستتولى مسئولية الأمن فى غزة لفترة غير محددة بعد نهاية الحرب. تردد أن من بين مقترحات وزير الخارجية الأمريكية أن تتولى مصر إدارة القطاع لفترة انتقالية. أحسنت مصر برفضها للمقترح. نفس وزير الخارجية الأمريكية أكد أنه لن يحدث تهجير قسرى جماعى من غزة، وأنه، بعد نهاية الحرب، لن تقتطع أى مساحة من الأرض من غزة، كما أن مستقبل غزة لن ينفصل عن مستقبل الضفة الغربية. الرئيس الأمريكى نفسه كرر ضرورة التوصل إلى حل الدولتين الفلسطينية إلى جانب الإسرائيلية. الأهم من التصريحات هو تفاصيل التنفيذ، غير أن منطوق التصريحات إيجابى. ولكن هل تستطيع الولايات المتحدة فرض مضمونها على إسرائيل؟ وبالتالى هل يمكن للشعب الفلسطينى وللدول العربية المعنية مباشرة مثل مصر التعويل على الولايات المتحدة لتنفيذ ما أعلنه رئيسها ووزير خارجيتها؟ الولايات المتحدة التى لم تتمكن من الحصول من إسرائيل على الاستراحة الإنسانية التى طلبتها إنقاذا لماء وجهها مع الدول العربية ومع المجتمع الدولى؟
سابق لأوانه الحديث عن مستقبل غزة ومعها القضية الفلسطينية. نتيجة الحرب الجارية ستكون عاملا شديد الأهمية فى تشكيل هذا المستقبل. نتيجة الحرب ليست فقط فيمن ينتصر فيها إن كان ثمة منتصر. النتيجة أيضا فى الثمن الذى سيدفعه سكان غزة من جانب، وفى التكلفة التى تتحملها إسرائيل، من جانب آخر. التكلفة على إسرائيل داخلية أولا فالحرب، خاصة إن طال أمدها، ستثير تساؤلات لدى قطاعات من الإسرائيليين عن سلامة الظن بأن إسرائيل تستطيع أن تؤمن مواطنيها وفى الوقت نفسه أن تفرض إرادتها متزايدة الجشع والعدوانية على الفلسطينيين بلا أى مقاومة من جانبهم. التكلفة معنوية أيضا مصدرها التعبئة المستمرة للإسرائيليين التى يتطلبها فرض إرادة إسرائيل على الفلسطينيين ورد أشكال مقاومتهم. ثم إن التكلفة خارجية إذ سيتضح للمجتمع الدولى بأكثر مما هو واضح أن ليس لدى إسرائيل غير القوة للتعامل مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى. المجتمع الدولى رفض القوة أسلوبا للتعامل مع القضية والشعب الفلسطينيين، وكلما أمعنت إسرائيل فى ممارسة هذه القوة، سيزداد رفض المجتمع الدولى لهذا الأسلوب حتى يتأكد تمثل الشرعية الدولية فى هذا الرفض.
لذلك فالشرعية الدولية هى الزاد الذى يمكن التعويل عليه للتحرك، حين يحين وقت التحرك، نحو حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية. مبادئ هذا الحل موجودة فى القرارات الصادرة عن هذه الشرعية، من مجلس الأمن ومن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفى ميثاق الأمم المتحدة ذاته والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. أول هذه المبادئ هو حق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير. الواقعية تحتم تمكين الشعب الفلسطينى من ممارسة هذا الحق، هو الذى يتعرض لأشكال غير محدودة من التنكيل.
الولايات المتحدة لعبت فى نصف القرن الماضى الدور المركزى، إن لم يكن الأوحد، فى إيجاد تسوية للصراع العربى الإسرائيلى، وللبه وأصله وهو القضية الفلسطينية. فشلت الولايات المتحدة فى لعب هذا الدور وهى ابتعدت به عن الشرعية الدولية، وفشلها كان بسبب هذا الابتعاد. ليست مثالية ولا تعلقا بأمنيات التمسك بالشرعية الدولية. التعلق بأمنيات هو التعويل من جديد على الولايات المتحدة، ما لم تعد هى إلى الشرعية الدولية وتتوافق معها.
الواقعية هى العودة إلى الشرعية الدولية، وهى عودة ربما أنقذت حوكمة النظام الدولى المعرضة للانهيار فى الوقت الحالى.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات