الهجرة - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الهجرة

نشر فى : الخميس 13 سبتمبر 2018 - 10:35 م | آخر تحديث : الخميس 13 سبتمبر 2018 - 10:35 م

لا يحسب الإنسان أن الهجرة (أى هجرة) تصرف عشوائى متسرع، وأن الهجرة قرار عاطفى متسرع، بل حقيقة الهجرة أنها تصرف علمى مدروس كخيار ملزم لإدارة أزمة اجتماعية يحتم العقل اللجوء إليه.

(1)
فالهجرة هى «تخفيف حدة التوتر» بين الأطراف. ويتحمل الهجرة الطرف الأكبر عقلا والأكبر نفسا، مهما كانت الارتباطات بين الوطن وشخص المهاجر. فهذا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ولد مجاورا للبيت الحرام، ونشأ فى أسرة آلت إليها مقاليد الإشراف على البيت الحرام وزواره، حيث أجمعت قريش على إسناد جميع وظائف السيادة لعبدالمطلب ومن يختاره عبدالمطلب لمعاونته. ثم يقضى محمد طفولته وشبابه مجاورا للبيت ثم يبعثه الله نبيا ورسولا لشريعة من بين معالمها تنظيم العلاقة بالبيت، ومع كل ذلك يقضى رسول الله ثلاثة عشر عاما داعيا الناس إلى صلاحهم وسيادتهم ولم يفكر – رغم الضغوط – فى الهجرة حرصا على ممارسة الدعوة والبلاغ وإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

(2)
وكما يعلم الجميع حجم الويلات التى تعرض لها محمد من أهل مكة، إلا أنه تحمل وجاهد حرصا على الناس قبل الحرص على راحته. وما زال يفضل الإقامة فى مكة لمواصلة المجاهدة كلما أمكنه ذلك. فقد رأينا إذنه للمستضعفين بالهجرة إلى الحبشة، واستمراره فى مكة!!! سبحانك يا رب.. هذا رسولنا حينما يتاح الأمن والأمان (فى الحبشة) يبعث بأصحابه الذين لا يتحملون ضغوط المشركين. وهذا يعلمنا أن الهجرة سلوك شرعى متاح لمن يفقد القدرة على التحمل. أما من يستطيع التحمل فليبقَ مكانه كما بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)
وحينما تشتد الضغوط عليه، وتزداد المؤامرة عليه، ويحال بينه وبين البلاغ المعين، ويصل الأمر إلى سياسة «التصفية الجسدية» يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم فى التفكير فى الهجرة ليس حرصا على حياته ولكن حرصا على استبقاء الوحى واستمرار البلاغ فى بيئة أخرى. فكان خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعودته ثم شكواه إلى الله: «إلى من تكلنى إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى يا أرحم الراحمين.. إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى».

(4)
ويلهم الله رسوله بالاستعداد والإعداد للهجرة. فيبدأ اتصالاته الخارجية مع وفود الحجاج العرب فى موسم الحج فى «منى» حيث يجتمع الحجاج ويعرض رسالته على من يلقاه منهم محددا طلبه فى شأن واحد: «من يحملنى (يساعدنى) لإبلاغ دعوة الله إلى للناس. فقط لا يريد ملكا ولا جزاء ولا شكورا. ويستمع شباب العرب له، وتستولى الدعوة على مشاعرهم، لكنهم يستحضرون عقولهم فيقولون له قد أعجبتنا دعوتك، ولكن الأمر ليس لنا وحدنا، فدعنا نخبر كبراءنا ونلقاك فى العام القادم.

(5)
ولم يتعجل الرسول الأمر حتى كان العام القادم وحضر بعض أهل يثرب يرحبون بالدعوة الجديدة ويعرضون استضافة الرسول لديهم وضيافة كل من يهاجر إليهم. وهكذا كانت الهجرة إعلانا عن تغيير جديد فى سلوكيات العرب البدو. فقد كانوا يكرمون الضيف أبلغ إكرام لكنهم يحبون استقلالهم فى أماكنهم، فكانت الهجرة تحولا نوعيا إذ أصبحوا لا يفضلون الاستقلال عن الآخرين، بل يرحبون بالمقيم معهم إقامة طويلة أو أبدية فكانت الهجرة كما رأينا: أولها المصابرة، وثانيها التخطيط، وثالثها التنفيذ المحاط بجميع وسائل الأمن والأمان.
يتبع

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات