أسيوطستان سيتي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسيوطستان سيتي

نشر فى : الخميس 13 يوليه 2023 - 6:55 م | آخر تحديث : الخميس 13 يوليه 2023 - 6:55 م

هذا هو المقال السادس عشر الذي أكتبه كجزء من مشروع كتاب عن "الشخصية القبطية في الأدب المصري"، ومقال هذا الأسبوع عن رواية "أسيوطستان سيتي" التي ألّفها مايكل برنس الطبيب النفسي الشاب ابن نجع حمّادي الذي درس الطب في جامعة أسيوط وتخرّج عام ٢٠٠٦ ثم هاجر إلى كندا في عام ٢٠١٤. صدرَت الرواية في طبعتها الثانية عام ٢٠٢٠ عن دار نشر ميريت، وهي رواية ضخمة إذ يبلغ عدد صفحاتها ٤٦٢ صفحة بالخط الصغير، وبالتالي استغرقتُ وقتًا طويلًا في قراءتها خصوصًا وهي حافلة بعشرات الشخصيات التي تناولها المؤلّف بشكل تفصيلي -حتى وإن كانت عابرة وغير مؤثرة، وهو أمر مرهق للقارئ ومشتّت الانتباه.
• • •
تدور أحداث الرواية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتلحظ التغيّر التدريجي الذي طال الواقع الاجتماعي في أسيوط بتأثير عاملين أساسيين، الأول هو تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١، والثاني هو قضية الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام في عام ٢٠٠٦. هذه الملاحظة ترصدها الرواية من خلال مجموعة من الأطباء الذين يقضون سنة الامتياز اللازمة قبل ممارستهم المهنة في أسيوط، علمًا بأن بعضهم لا ينحدر من أسيوط نفسها. يقيم هؤلاء الأطباء جميعًا في استراحة بحي نائلة خاتون بأسيوط بحيث يتقاسم كل طبيبين غرفة واحدة، ورغم محاولة الجمع بين مسلم ومسيحي في غرفة واحدة إلا أن المحاولة لم تنجح، فلا رحبّ بها المسلمون (خصوصًا الإخوان) ولا استراح لها المسيحيون، وهذا يعني أن هناك حدودًا للعلاقة لا ينبغي تجاوزها. تلك العلاقة قد تتخّذ شكل الجيرة الطيبة، أو التشارُك في التجارة، أو الصداقة وجلسات السمر والمزاح، فمع أن المسيحيين يؤثرون البُعد عن المشاكل إلا أنهم لا ينغلقون على أنفسهم ويتأقلمون مع بعض أشكال التمييز التقليدية، ومنها التمييز في التعيينات الجامعية. ويفسّر مايكل برنس كون المسيحيين لا يتحركون ولا يصطفون كجماعة دينية بأنهم يشكّلون نسبة يُعتّد بها من أهل أسيوط، وذلك على العكس من الحال في الأقصر حيث المسيحيون يمثّلون أقلية عددية وبالتالي يحتاجون للتعاضد والتحرّك بمنطق الجماعة.. بقول آخر فإن معيار العدد يلعب دورًا حاكمًا في نشوء الاحتياج للاستقواء بالجماعة الدينية (أو بأي جماعة أوليّة أخرى) من عدمه. ومع ذلك فإن الأمر أكثر تعقيدًا من الربط الميكانيكي بين العدد والتحرّك بروح الجماعة، لأن هذه الجماعة إذا ما شعرَت بالتهديد رغم كثرتها العددية فإنها قد تتدخل بمبضع الجرّاح لوقف هذا التهديد. وهكذا نجد أنه عندما أحبّ الطبيب المسيحي آسر عطا الله زميلته شيماء الطبيبة المسلمة احتجزه بعض أطباء الإخوان في حجرة زميلهم عصام صلاح المسلم لتأديبه، فما كان من طبيب مسيحي آخر إلا أن اقتحم الغرفة وحرّر آسر. وعندما اقتربَت إيمان مختار الطبيبة المسيحية من زميلها المسلم، دفع لها بعض زملائها البروتستانت بثلاث فتيات لاجتذابها لدروس الوعظ في جمعية "خلاص النفوس". وفي الحالتين نجح التدّخل في تحييد مصدر التهديد.
• • •
كذلك فإن عدم تحرّك المسيحيين في أسيوط ككتلة واحدة يرجع إلى التنوع المذهبي الكبير الذي يميّز هؤلاء المسيحيين. وفي مكالمتي التليفونية مع المؤلف مايكل برنس حدثّني عن النشاط الكبير للحركة البروتستانتية هناك، وكيف أن الكنيسة الإنجيلية الثانية، كما يسمّونها والتي تتوسّط مدينة أسيوط، تُعّد قِبلة للبروتستانت من مختلف أنحاء العالم. ثم أن البروتستانت يتوزعون هم أنفسهم بين عدة طوائف (فمنهم الإنجيليون والإخوة والإصلاحيون والخمسينيون) على درجة عالية من التعاون، أما فيما يخصّ علاقتهم بالأرثوذوكس فهناك أيضًا مسافة وحدود مرعية، إذ نجد البروتستانت والأرثوذوكس ينتظمون في أنشطة مشتركة مع تجنّب الطرفين الخوض في التفاصيل الدينية، ومع وجود بعض الغمز واللمز من حين لآخر، ومن ذلك أن الأسقف الأرثوذوكسي عندما تلقّى سؤالًا من مجهول حول شفاعة السيدة مريم العذراء ردّ قائلًا "واضح إن اللي باعت السؤال ده بروتستانتي"، في استنكار مبطّن للتشكيك في شفاعة مريم البتول. وأخيرًا فإن مسيحيي أسيوط فيهم مَن انصرف عن الدين بعد إصابته بالإحباط كمثل الطبيب هاني طلعت الذي ضاع حلمه في كتابة السيناريوهات السينمائية، ومنهم مَن تعمّق في الدين وتحوّل بفضل ذلك من طالب فاشل لطالب متفوّق كمثل الطبيب أيمن سليم، ومنهم مَن ظلّ مخلصًا لبروتستانتيته حتى النخاع كمثل ريمون عادل الذي لم يدخل كنيسة أرثوذوكسية قط. وهذا العامل الأخير، أي اختلاف النظرة للدين ودور الدين في توجيه العلاقات الاجتماعية ساهم كما هو متوقع في إضعاف التماسك بين أفراد الجماعة.
• • •
مع تقسيم العالم إلى نحن وهم بشكل غير مسبوق في أعقاب تفجيرات برجّي مركز التجارة العالمي ومقّر وزارة الدفاع الأمريكية، وبشكل أكبر بعد موجة الإسلاموفوبيا التي عمّت أوروبا، بدأ المجتمع الأسيوطي يشهد مظاهر للتعصّب الديني لم يعتدها من قبل. الخُطب التحريضية ضد المسيحيين تُتلى على المنابر، المنشورات المؤذية تسللَت حتى إلى "مذكرات العضم" للتأكد من أن جميع الطلاب سوف يقرأونها، الكتيبات المثيرة للفتنة من نوع "لماذا حرّف الإنجيل؟" تُتَداول، المظاهرات الجامعية الصاخبة للاحتجاج على الرسوم المسيئة تدعو المسيحيين للانضمام إليها، لحي وجلاليب قصيرة ونقاب، تشغيل القرآن في الفجر، تزايد التعليق على ملابس الفتيات المسيحيات، إلغاء الآخر كمكوّن أساسي من مكونات الشعب المصري "إحنا الحمد لله شعب مسلم ورئيسنا راجل مسلم"، وصولًا إلى التطاول الفجّ من بعض أعضاء جماعة الإخوان كما في تنمّر الشيخ عبد المتين -الطبيب الإخوانجي- على المسيحيين بقوله ".٦٠٪ من اقتصاد مصر ومش شبعانين.. أما التبشير شغّال عيني عينك ولا حد عارف يلمهم". بالتدريج أخذت أسيوط تفقد بعض تصالحها مع تنوعها البالغ، وكانت أسيوط قد اشتهرَت بأنها الحاضنة للشيء وعكسه، فهي مسقط رأس سيد قطب وجمال عبد الناصر، وهي التي خرجَت منها قيادات جماعات العنف السياسي أمثال كرم زهدي وعاصم عبد الماجد وخرج منها في الوقت نفسه الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي وشاعر النيل حافظ إبراهيم. ومع هذا التغيير بدأت هجرة الأسايطة للخارج وبالذات إلى الولايات المتحدة، حتى صارت هناك صلة ملحوظة بين أسيوط وأمريكا وبين أسيوط والإرهاب "فهنا ثمة ١١ سبتمبر في كل يوم" يقول مايكل برنس.
• • •
في هذا السياق الاجتماعي المتحوّل احتلّت قضية الهجرة مكانًا معتبرًا من حوارات الشخصيات الرئيسية في الرواية، يضاف إلى ذلك تذمّر الأطباء من ضعف دخولهم، إن لم تكن لهم عيادات خاصة. هذان السببان اجتمعا معًا ليدفعا بمؤلف الرواية نفسه لاتخاذ قرار الهجرة للخارج بعد وصول الإخوان للحكم لأن الوضع صار غير مأمون بالمرة، ومع أنه- كما ذكر لي في مكالمته- يعمل ممرضًا للحالات الحرجة ولا يستقّر في مكان داخل كندا إلا أنه يتقاضى راتبًا يزيد أضعافًا على راتبه كطبيب. أما في الرواية فلقد هاجر الطبيب مينا عبد المسيح إلى كندا، وهاجر چورچ حنّا إلى الولايات المتحدة وعمل بأحد المطاعم قبل أن يكمل دراسة الطب لكنه عاد ليتّم دراسته ويشرّف أولاده، وهاجر الطبيب ميشيل چورچ أيضًا للولايات المتحدة مع أنه كان يرفض ذلك ويؤكد أنه بعد ١١ سبتمبر لم يعد الصليب الموشوم على رسغ المسيحي يسهّل له الهجرة، وبدأ الطبيب هاني طلعت يفكر في الهجرة ولم يكن يفكّر بدوره. مثل هذا النزيف البشري في فترة الرواية معناه أننا نفقد مسيحيينا ونفقد أطباءنا.
• • •
والآن وقد مضى على أحداث الرواية ثلاثة عشر عامًا مرّت خلالها مصر بتطورات سياسية ضخمة، يثور السؤال: ماذا تغيّر بعد ٢٠١١؟ حدث تغيّر في السياق العام فيما يخصّ وضع المسيحيين كمواطنين كاملي المواطَنة، وحدث انحسار مؤكّد في الهجمات الإرهابية، وحدث اختلاف جذري في علاقة المسيحيين بالشأن العام وانخرطوا فيه بأكثر مما فعلوا في أي مرحلة أخرى بعد ١٩٥٢، فكيف انعكس ذلك على الأسايطة ومجتمعهم؟ نحتاج إلى تكملة. لكن يُذكَر لرواية مايكل برنس أنها من الأعمال القليلة جدًا التي تعرّضت للتفاعلات بين الطوائف المسيحية وبعضها البعض قبل ٢٠١١، كما يُحسَب لها مقارنتها المهمة بين وضع المسيحيين في كلٍ من أسيوط والأقصر. هذه المقارنة طوّرها مايكل برنس حين اتصلتُ به فأضاف إليها نجع حمّادي التي يتميّز فيها المسيحيون بهيكل اجتماعي مختلف عن أسيوط لأن غالبيتهم ذوو ثراء كبير، وينتمون بالأساس للمذهب الأرثوذوكسي مع توسّع ملحوظ للمذهب الكاثوليكي لا البروتستانتي، وهم أكثر تدينًا وأقل عددًا. وأظن أن عمل زووم على تنوّع الخريطة المسيحية في كل صعيد مصر والمقارنة بين مكوناتها وفق معايير الطبقة والمذهب والعدد والتكوين العُمري والنوعي والوظيفي والعلاقات البينية ومع المسلمين، هذا العمل إن تمّ بشكل ممنهج سيكون رائدًا في مجاله. تبقى الإشارة إلى لغة الرواية وهي بليغة لكنها تفرط في استخدام أفعال مهجورة من قبيل "ماعتمت أن ارتدّت"، "ثم انبجسَت لافتات كأنها خرجت من باطن الأرض"، "فإنه واكظ على التردد" ..إلخ. وعندما ذكرتُ ذلك لمايكل برنس قال إن هذا كان في بداياته الأولى لكن أسلوبه الآن صار أكثر بساطةً.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات