ذكريات الثانوية العامة - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 8:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذكريات الثانوية العامة

نشر فى : الجمعة 11 أغسطس 2023 - 7:15 ص | آخر تحديث : الجمعة 11 أغسطس 2023 - 1:33 م

أتيحت لي الفرصة كي ألتقي بأحد أوائل الثانوية العامة للعام ٢٠٢٢-٢٠٢٣ على إحدى الفضائيات العربية، فكانت التجربة بالغة الإثارة إلى الحد الذي شعرتُ معه ليس أننا ضيفان على تلك الفضائية بل إنني أنا نفسي عبارة عن كائنة فضائية كبيرة. يفصل بيني وبين هذا الشاب ٤٩ عامًا منذ كنتُ الأولى على الثانوية العامة القسم الأدبي في عام ١٩٧٣-١٩٧٤، وبالتالي فلا موضع للمقارنة أصلًا وهذا طبيعي كما لو كنت قد قارنتُ مثلًا بين شهادة البكالوريا التي حصل عليها والدي في ثلاثينيات القرن الماضي وشهادة الثانوية العامة التي حصلتُ عليها أنا في السبعينيات، مع تحفّظ بسيط يتعلّق بأن معدّلات التغيّر في الظواهر آخذة في التسارُع بحكم التطورات التكنولوچية الهائلة. ولو أردتُ أن أرصد بعض أهم معالم التغيير في بيئة العملية التعليمية بين ١٩٧٤ و٢٠٢٣ من منظور الثانوية العامة وترتيب الأوائل سنجد مثلًا أنه بعد أن كان التخصص ينحصر في القسمين الأدبي والعلمي صارت هناك تفريعات في القسم العلمي لرياضة وعلوم، وبينما كانت هناك شهادة واحدة للثانوية عامة تعدّدت الشهادات المنافسة التي تمنحها حوالي ٣٥٠ مدرسة على مستوى الجمهورية. وبعد أن كانت مدارس الراهبات تستحوذ على معظم المراكز الأولى خصوصًا في القسم الأدبي أصبَحَت المدارس الحكومية التي تقدّم "التعليم الوطني" هي صاحبة نصيب الأسد من أوائل الثانوية العامة بعد أن أخذ "التعليم الدولي" سواء في المدارس الخاصة الجديدة أو في المدارس الأجنبية العريقة أعدادًا متزايدة من أبناء الطبقة الوسطى، فضلًا عن أبناء الطبقة العليا بطبيعة الحال، والسبب الأساسي وراء ذلك هو الهروب من تعقيدات امتحانات الثانوية العامة. وبعد أن كان هناك تنسيق واحد تعدّدَت مكاتب التنسيق بحكم تعدّد نظم التعليم. وبالنسبة لنظم الامتحانات فلم نكن نعرف شيئًا اسمه الاختيار من متعدّد فلكل سؤال إجابة مقالية ولكل معادلة رياضية حلّها، ولا ننسى طبعًا أن مجموع درجات المواد وكذلك مجاميع الأوائل ارتفعَت بشكل ملحوظ مقارنةً بما كان عليه الوضع أيام زمان، وكمثال كان مجموع درجات مواد الثانوية العامة في عام ١٩٧٤ للقسم الأدبي ٢٨٠ درجة فأصبح ٤٠٠ درجة، وكنتُ الأولى على الجمهورية أدبي من مدرسة المير دي يو بنسبة 92.8٪، أما الأولى أدبي هذا العام واسمها فايزة علي محمد محمود فحصلَت على 98.1٪، وهي من مدرسة المصطفى الثانوية المشتركة للبنات، وتم إلغاء نسبة الـ٢٪ التي كان يحصل عليها الدارسون لمستوى رفيع من إحدى اللغات الأجنبية. وكانت على أيامنا توجد جامعة خاصة واحدة هي الجامعة الأمريكية، أما الآن فلقد تعدّدت الجامعات الخاصة وتنوّعت.
• • •
لكن رغم كل هذا التغيّر في البيئة التعليمية أرى أن التغيير الأهم هو الذي حدث في نقطتين أساسيتين، النقطة الأولى هي دور المدرسة، وأعني بها المدرسة الحكومية التي يقصدها السواد الأعظم من أبناء المصريين، والنقطة الثانية هي علاقة المدرسين بالطلاب. نشأتُ في أسرة تعلّم أبناءها تعليمًا حكوميًا من الألف للياء، ولو أخذنا المرحلة الثانوية على سبيل المثال فإن أخوّي أتمّاها في مدرسة الإبراهيمية التي تخرّج منها صاحب أهم مشروع لتطوير التعليم ما قبل الجامعي في مصر، وهو طبيب الأطفال الشهير ووزير التربية والتعليم الأسبق الدكتور حسين كامل بهاء الدين. ومازلتُ أذكر كيف أرسلَت إدارة المدرسة الإبراهيمية في استدعاء والدي على عجل لأن أخي الأكبر تغيّب يومًا عن الحضور دون سبب، فالانتظام كان هو الأصل والغياب كان هو الاستثناء. اليوم تغير الوضع وانقلبَت الآية وتحوّل التعليم النظامي من الناحية العملية إلى تعليم من منازلهم كما كنا نقول. لكن الطلاب الذين يتغيبون عن المدرسة يفقدون دون أن يعلموا أشياءً لا تُعوّض: مشاوير ما قبل بداية العام الدراسي لشراء الزي المدرسي والحذاء والأقلام والكشاكيل، طابور الصباح وتحية العلم والإذاعة المدرسية، الفصل والصّف والمقعد والجدران التي عليها بصمات أصابعنا، الفُسحَة والحوش والمصروف والكانتين، الناظر والمدرّس وزيارات التفتيش الدورية من الإدارة التعليمية، الشقاوة والمقالب والصداقة والحواديت والذكريات والقيم وترقّب النتيجة مع كل شهادة شهرية، أشياء لا تُشترى ولا تُضاهَى، ولن يجدها المتغيبون أبدًا في أفضل "السناتر".. هذا المصطلح السخيف الذي قمنا بتعريبه للدلالة على العِزال من المدارس لمراكز الدروس الخصوصية، وليس مصادفةً أن العِزال مشتّق من الجذر اللغوي عزَلَ.. ليس مصادفةً أبدًا. مازلت أذكر حتى الآن صورة أمي وهي تقف في المطبخ كل صباح لتعّد لنا ساندويتشات المدرسة، وتدّس لنا معها من فرط التدليل بعض الأشياء التي تودّي في داهية كقطع قصب السكر، وتوصينا أن نأكلها في الفسحة الأولى لا الثانية لأنها قد تنشف وتسوّد، تفكير لا يخطر على بال أحد لأن الحياة يمكن أن تمضي عادي بسلاسة وبدون قصب السكر، لكن مفتاح اللغز موجود في قلب الأم. وبعد كل هذا العُمر مازال قلبي يخفق كلما مررتُ بشارع بغداد في مصر الجديدة ورأيت بائع الأقفاص والصناديق الخوص يجلس أمام محل Paul محاطًا بثروته الملونّة، ففي هذه الصناديق طالما دسّت لنا أمي أشياءها اللذيذة المعجونة بحب وقلق واهتمام، فهل ننسى؟ كيف ننسى؟ أكاد في هذه اللحظة أحسّ بطعم قصب السكر في فمي وتخايلني دموع الاشتياق.
• • •
النقطة الثانية التي طالها تغيير جوهري هي علاقة المدرّسين بالطلاب، وعلى أيامنا وأيام الذين سبقونا كان هناك مدرسون أثرّوا في تشكيل شخصياتنا بأكثر مما يتصوّرون هم أنفسهم. عشتُ وأنا الأختُ الصغرى لأخوّي الذكرين -فرحة أخي الأوسط كلما فاز بجنيه- وهذا مبلغ كبير جدًا في مطلع السبعينيات- من مدرّس الرياضيات بالمدرسة الإبراهيمية الأستاذ سعد كامل، وسمعت في بيتنا عن شطارة أستاذ سعد إسرائيل مدرّس الكيمياء والأستاذ محمد طحيمر مدرّس الفيزياء، فلقد كان المدرسون جزءًا متمّمًا ومكمّلًا لأسرتنا ولكل الأُسر. لن أتطرّق هنا لدور مدرسّي مدرستي الخاصة حتى نقارن التفاح بالتفاح كما يقال، فقط أشير إلى أنه عندما توقفّت الدراسة لنحو ثلاثة أسابيع بسبب اندلاع حرب أكتوبر تطوّع أستاذ مخلص جاد الله مدرّس الفلسفة والمنطق وعلم النفس بزيارتي في المنزل والتدريس لي حتى إذا استؤنفت الدراسة كنت جاهزة، فقد كان يراهن عليّ وفضله عليّ كبير. وعندما أخبرني أحد موظفي الكونترول أنني أوشك أن أكون الأولى على الجمهورية في انتظار ظهور نتائج أربع محافظات، كانت تأتيني التليفونات اليومية من مدرسّي مدرستي للاطمئنان عليّ أولًا بأول: هيه خلصوا الغربية؟ هيه خلصوا المنوفية؟ وتلك الأفعال تدخل اليوم في عداد الأساطير.
• • •
انتهى مولد الثانوية العامة.. انتهى بعد أن جدّد امتناني وسعادتي وحنيني وشبابي، مبروك لكل الناجحين.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات