رجاء النقاش.. صاحب فضل! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 11:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رجاء النقاش.. صاحب فضل!

نشر فى : السبت 10 فبراير 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 10 فبراير 2024 - 7:35 م
ــ 1 ــ
مدين أنا لرجاء النقاش حقيقة، رغم أنى لم ألتق به أبدا ولم أقابله قط!
كان الناقد الراحل الكبير رجاء النقاش (1934ــ2008) هو الناقد الأشهر وكاتب المقال المرموق الذى تفتحت عيناى، وأنا فى المرحلة الإعدادية، على مقالاته فى (الأهرام)، وفى مجلة (المصور) الأسبوعية.
كان يكتب عن موضوعات تستهوينى وتجتذبنى بسحر غامض وجارف، كل «شخصية» يكتب عنها يجعلنى أقرأ عشرات الصفحات للبحث عن المزيد من المعرفة حولها! كل «كتاب».. كل «قضية».. كل «نص» إبداعى.. يكتب بسهولة ويسر ويتنقل بين الفنون والأنواع الأدبية والمعارف الإنسانية والعلوم الاجتماعية بالبساطة التى يدخن بها سيجارته!
مثل رجاء النقاش حالة خاصة واستثنائية فى ثقافتنا العربية المعاصرة كلها، فقد كان أحد نجوم النقد والصحافة المصرية والقومية العربية فى النصف الثانى من القرن العشرين؛ كان نجما بكل ما تعنيه الكلمة، نشطا غزير الإنتاج متابعا دءوبا لكل قضايا وهموم الإبداع والفكر والثقافة فى مصر وعالمنا العربى، تفرد وتميز بفتوحات نقدية واكتشافات إبداعية، ومراجعات ثرية وقراءات رائقة، لم يطاوله فيها أحد، ولا ينازعه فيها أحد!
كان نموذجا ناصعا على ثقافة الناقد وتكوينه الموسوعى وقدرته على الجمع بين نقد الأنواع الأدبية المختلفة، وإدراك جمالياتها وخصائصها النوعية، وغزارة الاطلاع على النتاج الإبداعى معظمه فى القصة القصيرة والرواية والمسرح والشعر.
يكتب عن طه حسين وأحمد أمين وعاطف بركات وسعد زغلول، مثلما يكتب عن نجيب محفوظ ويحيى حقى والطيب صالح ومحمود درويش وسميح القاسم! يكتب عن «أولاد حارتنا» وعن «وليمة لأعشاب البحر» و«موسم الهجرة إلى الشمال»، ويقرأ شعر نزار قبانى وأحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور، ينخرط فى الدفاع عن العروبة والقومية العربية ويكتب ضد من أطلق عليهم «الانعزاليين فى مصر».. إلخ.
ــ 2 ــ
هذا المثقف «الكاريزماتى» كان يمثل بالنسبة لطالب فى الثالثة عشرة من عمره يقرأ (الأهرام) و(الهلال) و(المصور)، وفيما بعد مجلة (وجهات نظر) التى كانت تصدر عن (الشروق)، فقط من أجله ومن أجل متابعة مقالاته، نافذة كبرى وواسعة على كل دروب ومسارب الثقافة العربية الأصيلة، وما يوازيها من ترجمات وآداب غير عربية.
النقاش جعلنى أدرك أن مفتاح المعرفة والوجود كله هو «اللغة»، إذا تمكنت من لغتك قراءة وفهما وكتابة وسماعا وتحدثا فقد امتلكت المفتاح الذهبى للتواصل مع العالم! لعب رجاء النقاش دورا لا ينكر فى توجيهى للأدب والنقد والثقافة الإنسانية (مع آخرين بالتأكيد) لكننى لم أدرك وقتها أنه مثل لى النموذج الأرقى للمهنة التى احترفتها بعد ذلك، وإن لم أخطط لها على الإطلاق! مهنة «الصحفى الثقافى» بكل ما مثله رجاء النقاش وقتها من نجومية وحضور وإشعاع فكرى وثقافى وإنتاج غزير وكتابة منتظمة، وتألق على كل المستويات!
وبسبب امتلاكه للغة وتمكنه منها جاءت كتابته رائقة ممتعة، ومقالاته سهلة القراءة تلعب دور العتبات المعرفية بامتياز، فهى لا تتورط فى كتابة خشنة فظة منفرة مثل كتابات كثيرة تدعى العمق والرصانة والمنهجية، وهى فى الحقيقة تخلو من هذا كله! وكان أستاذ صحافة قديرا فى اختيار عناوين كتبه التى تجذب شرائح متنوعة من القراء وتغريهم بالقراءة، ولعل بعضها يكون محل حديث خاص فى الأسابيع المقبلة.
ــ 3 ــ
كان رجاء النقاش الذى تخرج سنة 1956 على وجه التحديد، فى ذات الكلية (الآداب) والقسم (اللغة العربية وآدابها) والجامعة (القاهرة) التى تشرفت مثله بالانتساب إليها والتخرج فيها، كان «جواهرجيا» بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فهو الذى اكتشف الطيب صالح ونشر رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال» للمرة الأولى فى سلسلة روايات (الهلال) الشهيرة، وكتب لها مقدمة نقدية رائعة.
وهو الذى أخرج كتابا كاملا عن صوت شعر المقاومة الفلسطينية؛ «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة»، وهو الذى كتب دراسة تأسيسية بالغة الأهمية عن أحمد عبدالمعطى حجازى وديوانه الأول «مدينة بلا قلب» الذى صدر عام 1959 وكانت دراسته هذه خير مقدمة لشعر أحمد عبدالمعطى حجازى، وخير مدخل إلى الشعر الحر عموما، كما كتب عن شاعره المفضل والأثير صلاح عبدالصبور، وكتب عن الشعر والمسرح فى الخمسينيات والستينيات، وظل متابعا دءوبا لكل مظاهر الإبداع الثقافى فى مصر والعالم العربى طوال ما يقرب من نصف القرن.
وكان صديقا شخصيا ومقربا لكبار المبدعين فى مصر والعالم العربى، وعلى رأسهم نجيب محفوظ الذى ائتمنه على سيرته الذاتية «المفصلة»، وسجل معه خمسين ساعة كاملة، كان حصادها كتابه الأشهر «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» الذى صدر فى طبعات عدة عن دار الشروق. وأصدر عنه أيضا كتابه الآخر «فى حب نجيب محفوظ»، وكتابه السجالى «أولاد حارتنا بين العلم والدين»، وغيرها من الكتب المهمة التى حظيت بانتشار واسع وقبول كبير حتى وقتنا هذا.. وقد كتبت سابقا عن هذه الصداقة الفريدة التى جمعت بين المبدع الأهم والناقد الأشهر.
ــ 4 ــ
أما حضوره الإنسانى والصحفى العارم، فيكفى فقط أن نقرأ ما كتبته أستاذتنا الصحفية الكبيرة والقديرة بمجلة (المصور) الأستاذة نجوان عبداللطيف، فى سطور تشع محبة وصدقا وامتنانا (وافتتانا أيضا): «رجاء النقاش كان ناقدا مبهرا وإنسانا رائعا محبا للحياة والبشر والفن والإبداع والوطن.. متدفقا فى كتاباته فى متابعاته. لديه موهبة الكشف عن الجواهر فى الشعر والأدب.. قدم كتابا وشعراء أصبحوا نجوما كبارا.. رجاء هو من يصفون كرمه بـ «الحاتمى».. كان كريما فى كل شىء فى بيته الذى كان صالونا ثقافيا عربيا متجددا يحفل بكل من تطأ أقدامه المحروسة بميعاد أو بدون ميعاد.. كريما فى أستاذيته للأجيال التالية.. كريما فى محبته للناس كبيرهم وصغيرهم».. (وللحديث بقية)