سعاد هانم - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 6:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعاد هانم

نشر فى : الخميس 6 أبريل 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 6 أبريل 2023 - 8:40 م
تحررَت سعاد هانم من مشَايتها وبمساعدة من معاونتها الطيبة جلسَت ببطء على رأس المائدة. حاوَلَت أن تخفي تألمها وراء دعوتها لنا لنتفضّل نحن أيضًا بالجلوس، لكن كشَفَتها ضغطة خفيفة على شفتيها. بدأنا نسحب مقاعدنا تباعًا الواحد تلو الآخر كأننا قطع دومينو في انتظار آذان المغرب. هذه الدقائق التي تسبق الله أكبر.. الله أكبر تكون أطول من غيرها بالتأكيد. لفحَت أنوفنا روائح المحمّر والمشمّر وسط المائدة العامرة التي يتوسطها طبق الشركسية. حرصَت سعاد هانم أن تؤكد أن هذا الطبق بالذات تمّ تحت إشرافها وبتعليمات مباشرة منها، تذكّرتُ قصة طبق الكريب سوزيت في فيلم "إشاعة حب" عندما شمخَت الممثلة القديرة إحسان الشريف بأنفها ودسّت يدها في جيبها وقالت لزوجها يوسف بك وهبي قولتها الشهيرة: هما عيلتين اتنين بس في مصر اللي يعرفوا يعملوا الكريب سوزيت: عيلة سلطح بابا وعيلتي أنا!. ابتلعتُ ابتسامتي بلعًا، وهل جننتُ حتى أبتسم بدون سبب ظاهر في حضرة سعاد هانم؟
• • •

امرأة تزحف نحو التسعين من عمرها، ولولا الصعوبة التي تواجهها في الحركة لحلّ لفظ تُسرع محل لفظ تزحف، فعدا ذلك كله تمام. وحتى أربع أو خمس سنوات مضت كانت تشترك مع مجموعة من النساء والرجال من عمرها في القيام برحلات دورية من خلال نادي الغابة بمصر الجديدة، فكانت تذهب للغردقة وشرم الشيخ والفيوم، وتعود بحكايات فيها من الخيال بقدر ما فيها من الواقع، وكل حكاياتها ممتعة ليس هذا فقط بل ومقنعة أيضًا. إنها قادرة على جعلك تتبنى روايتها عن الرئيس فلان أو الممثل علّان الذي تصادف مروره بفندق نيو كتاراكت بأسوان وسألها باهتمام عن حال ابنها الطبيب الشهير الذي تفخر به.. نعم ستتبّنى أنت روايتها وعندما تأتي فرصة ستجد نفسك تحكيها للآخرين بنفس التفاصيل. إنها امرأة قوية بكل معنى الكلمة، وهي تحرص على تأكيد قوتها في كل مناسبة بما فيها إفطار اليوم، فعندما شخللَت إسورة الجنيهات الذهب بوجه الملك چورچ في معصمها، وهي تنهر أحد أبناء الجيل الثالث الجالس أقصي المائدة ليرفع عينه عن الموبايل، انتهر بسهولة ودون نقاش. في الصندوق الصدف داخل الشفونيرة توجد باقي قطع طقم الجنيهات الذهب: البروش والخاتم والقرط والسلسلة، وكثيرًا ما رأينا المجموعة كاملة عندما كانت تخرج سعاد هانم في صحبة زوجها المرحوم عبد القادر بك وهما الاثنان معًا على سنجة عشرة، أما اليوم فإن طبيعة المناسبة ونوع المدعوين لا تحتملان أكثر من الإسورة. تهّف علىّ بعض تجلّيات قوتها وهي تضبط إيقاع العمل في بيتها كما لو كان يسير بتوقيت ساعة سويسرية ونظام ألماني، وهي نفسها كانت جزءًا أساسيًا من منظومة العمل داخل البيت وخارجه، تصنع كل شيء بيدها من أول لوحات الكانڤاه الكبيرة التي تملأ جدران شقتها وشقق أفراد الأسرة، وحتى مرايل أولادها وملابس خروجهم بما فيها القمصان، وبين الاثنين تُشرف على مطبخ مدرسة النقراشي الابتدائية وتعتني بزراعة نباتاتها وتصنع للتلاميذ المربى والعصائر وجميع أنواع الكعك والبسكويت.. وهي تنطق الكعك بالعين فلا نأخذ راحتنا ونقول "كحك" إلا في غيابها. عندما مرض زوجها بالمرض الوِحِش كانت هي ممرضته الوحيدة، وربما سمحَت بعد إلحاح بتداول النوباتشية الليلية مع بعض الأبناء لأنها رغم فخرها الشديد بهم، كانت لا تثق فيهم في المواقف المصيرية، وكان مرض الأب موقفًا خطيرًا بما يكفي. الذي كان يراها على هذا الحال أثناء مرض عبد القادر بك، مستحيل أن يتصوّر أنها نفس الزوجة التي إن غضبَت من زوجها تحوّلت إلى جمرة، تربط رأسها بإيشارب معين معروف للجميع، وكأنه الراية الحمراء على الشاطئ تحذر من السباحة وقت هياج البحر. تعتزل زوجها وتعتزل الكل لأيام، حتى إذا فكّت الإيشارب من فوق رأسها كان ذلك علامة على أن الجو بديع.
• • •

هذه الأجيال المتعاقبة والمتحلّقة حول المائدة لدى كل جيل منها مبرره الخاص كي يحّب شخصية سعاد هانم. بالنسبة لمَن تبقى من أبناء وبنات جيلها فإنها بمثابة همزة وصل مع ماضيهم الذي يحبون أن يتصلوا به بعد أن تغيّر العالَم من حولهم، ثم أنها تثبت لهم أن لكل عُمر جماله فهي تستقبلهم عادةً وهي في كامل هندامها.. حريصة على اتساق ألوانها وخامات ثيابها، وهي تطمئنهم أيضًا إلى أنه مازال في العمر بقية فلديها خطط للغد بسيطة لكن ممتدة.. خطط تتعلّق بتغيير ورق الحائط لأنه لم يعد على الموضة، وبشراء ثلاجة أخرى لأن ثلاجة واحدة لا تكفي، وبالتواصل مع محاميها لبيع الشاليه الذي تمتلكه في الساحل الطيب لأنه رأسمال راكد ولا أحد يتردد عليه. أما بالنسبة لأبناء وبنات الجيلين الثاني والثالث فإنهم يجدون فيها رمزًا لقيم كثيرة كالقوة والحكمة والتدبير، وهم يجدونها امرأة مُسلّية خفيفة الظل لا يفوقها أحد في سرعة بديهتها- فلا ينسون مثلًا أن شقيقها الأصغر عندما لاحظ في أحد الإفطارات الرمضانية أن لحم الخروف لم ينضج- ردّت عليه واثقةً وهي تلوك بفكيها قطعة من نفس اللحم بأنه هو الذي يحتاج إلى زيارة عاجلة لطبيب الأسنان. ثم أنهم يتقرّبون إليها لأنه ما من عريس جديد أو عروسة جديدة تدخل إلى الأسرة الممتدة إلا ولابد له/لها من الخضوع لكشف هيئة. صحيح أن هذه المواقف كان ينتج عنها أحيانًا نوع من الإحراج كما حدث مثلًا عندما طلبَت سعاد هانم من عروس حفيد ابن عمها أن تحرّك يديها المتشابكتين حتى يطمئن قلبها إلى سلامتهما، لكنهم لا يلبثون فيما بعد أن يتنّدروا على تلك الطرائف.
• • •

بعد تناوُل الشاي بالنعناع والكنافة بالمكسّرات والذي منه- وقفَت الأجيال الثلاثة صفيّن لالتقاط الصورة التذكارية السنوية المعتادة مع سعاد هانم. هذه الصورة بعد بروزتها ستضاف إلى مجموعة البراويز مختلفة الأحجام المتراصة فوق مائدة الصالون، والتي يتوسطها ناب طويل من العاج النادر حصل عليه عبد القادر بك من زيارته لإحدى الدول الأفريقية. أما الصورة الأندر على الإطلاق والتي اعتادوا إلقاء نظرة عليها مع كل صورة رمضانية جديدة، فهي تلك الصورة لسعاد هانم في شبابها وهي بثوب مشجّر بالغ الأناقة وبكامل قطع طقم الجنيهات الذهب، على وجهها ابتسامة عريضة وعلى ركبتيها يجلس طفل في الثانية من عمره في حالة إعياء تام. حتى هنا والأمر يبدو عاديًا، أما غير العادي فهو مناسبة التقاط تلك الصورة. كان الابن الذي يتوسّد حِجرها مصابًا بنزلة معوية حادة، وكان الطبيب قد حذّر الأم من احتمال أن يفضي الجفاف إلى ما لا يُحمَد عقباه، لذلك قررَت سعاد هانم أن تلتقط مع ابنها صورة تذكارية، وحرصَت أن تكون آخر لقطة لهما معًا إذا لا قدّر الله وقع المحظور وحان الأجل- لقطة باسمة!
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات