BBC بين إعلام الدولة وإعلان شبه الدولة - حسام السكرى - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

BBC بين إعلام الدولة وإعلان شبه الدولة

نشر فى : السبت 6 يناير 2018 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 6 يناير 2018 - 8:40 م

لا يعلم كثيرون ممن عملوا معي هذه القصة التي كنت طرفا فيها إبان عملي في بي بي سي. تذكرتها بمناسبة احتفال القسم العربي بذكرى انطلاق الإذاعة في الثاني من يناير عام 1938. حدثت وقائعها بعد شهور من الغزو الأمريكي للعراق الذي كانت بريطانيا حليفة للولايات المتحدة فيه، عندما كنت رئيسا لموقع بي بي سي العربي الذي أنطلق قبلها بنحو أربع سنوات.

كنت جالسا في مكتبي عندما سمعت طرقا خفيفا على الباب. فتحت فوجدت متحدثا للخارجية البريطانية ممن كانوا يشاركون كضيوف في برامج الإذاعة السياسية التي يناظرهم فيها ضيوف وساسة ومحللون من مختلف الأطياف فدعوته للدخول. بعد تبادل التحية أخبرني الرجل بأنهم يريدون عمل مدونة باللغة العربية على موقع بي بي سي، ينشر فيها وزير الخارجية البريطانية سلسلة مقالات موجهة لجماهير الشرق الأوسط. لم أفكر كثيرا قبل أن أخبره برفضي. لم يبد الرجل سعيدا بالقرار ولكنني شرحت له في عجالة بعضا من مباديء بي بي سي التحريرية المكتوبة تفصيليا في دليل الإرشادات المهنية الذي يدرس لصحفيي المؤسسة، والذي يمكن الاطلاع على محتواه المعلن والمتاح على شبكة الإنترنت.

أخبرته أن استضافة مقالات الوزير بهذا الشكل تضر بمباديء الحياد والتوازن والموضوعية وتدمر ثقة جمهور المؤسسة في العالم العربي في استقلالية كنت مسؤولا عن الحفاظ عليها. طلب الرجل مني بانزعاج وحرج أن أعيد النظر فيما قلت. فأخبرته أن الفكرة كان من الممكن أن تكون مقبولة لو كان لدينا على الموقع قسم تنشر فيه مدونات عدد متباين المواقف من وزراء خارجية دول المنطقة وليس الوزير البريطاني وحده. ذكرت العراق وسوريا ومصر كأمثلة وأخبرته أن استئثار وزير الخارجية البريطاني بمساحة من هذا النوع يضر ضررا بالغا بمصداقية بي بي سي والعاملين فيها. خرج الرجل من مكتبي آسفا وانتهت القصة.

لم أحتج لمراجعة رؤسائي ولم يعد لي أحد باستفسار أو رجاء أو طلب أو شكوى، أو حتى أمر بالتنفيذ من مستويات أعلى في الهرم التحريري. لم أشعر بالقلق رغم أن بريطانيا وقتها كانت ضالعة في حرب خارج حدودها، ورغم أن قرارات مخصصات وميزانية بي بي سي العالمية تصاغ داخل أروقة الخارجية البريطانية.

لدي عشرات من الحكايات من خبرتي في بي بي سي توضح أهمية العمل المؤسسي القائم على أسس ومعايير احترافية ومسؤولة وواضحة. أحكيها أحيانا لمن يتساءلون عن السبب في تباين مصداقية وسائل الإعلام عند جماهيره، وعن السر في ان اسم هذه المؤسسة العريقة صار مرادفا للعمل المهني الأمين عند القطاع الأوسع من الناس بشكل لم تتمكن مؤسسة أخرى من محاكاته أو الاقتراب منه.

لا يزال اسمي مرتبطا لدى كثيرين بـBBC بحكم فترة عملي الطويلة بها ورئاستي للقسم العربي بما يضمه من وسائط البث الإذاعي والتليفزيوني والرقمي حتى عام 2010. ولعل هذا هو السبب في توجه بعضهم لي بالشكوى أحيانا مما ينشر أو يبث عليها ويرون فيه مجافاة للواقع أو الحقيقة. كثيرا ما أحاول أن أشرح لهم أن خطأ ما، في تقرير ما، في خبر ما، لا يعني أن هناك تعمدا من المؤسسة لنشر الأكاذيب. هذا إذا افترضنا ان الخبر موضع السؤال كان خطأ بالفعل.

ربما لا يعلم كثيرون أن بي بي سي تجري مراجعات دورية تدعو إليها خبراء وأكاديميين وممثلين عن المشاهدين والمستمعين لانتقاد ما يبث فيها من محتوى. تساعد هذه المراجعات في تصويب الأخطاء وتحسين الأداء والاستمرار في الاحتفاظ بثقة الجمهور.

المؤسسات المستقرة التي تحترم جمهورها لا تنكر احتمال الخطأ أو تتنصل منه، ولكنها تضع معايير ودساتير لتوصيف المنتج والأداء المهني، وآليات للمراجعة والتصحيح.

هذه المعايير والدساتير، ومدى جدية احترامها والالتزام بها هي العامل الفارق بين الإعلام والدعاية السياسية الفجة، بين المؤسسة وشبه المؤسسة، بين الدولة وشبه الدولة.

التعليقات