بطلوع الروح - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 8:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بطلوع الروح

نشر فى : الخميس 5 مايو 2022 - 6:45 م | آخر تحديث : الخميس 5 مايو 2022 - 6:45 م
أن تسأل لماذا انتهى العمل الفني خير ألف مرة من أن تسال لماذا يستمر، فالسؤال الأول يحمل معنى المعايشة والاندماج، والسؤال الثاني يحمل معنى الزهق والملل، ومسلسل بطلوع الروح ربطنا به نحن المشاهدين إلى الحد الذي كان تأخّر عرض حلقاته الأخيرة يحدث ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي فلا ينقصنا إلا أن نرفع شعار" الشعب يريد ..". كان الشعور العام هو أن هناك شيئًا ينقص أمسياتنا الرمضانية وكأن روح فؤاد قد صارت واحدة من بقية أفراد العائلة، وتلك ذروة النجاح. أخذَتنا الحلقات الخمس عشرة للمسلسل إلى داخل دنيا داعش المليئة بالمتناقضات وفِعل الشئ وعكسه، وهذا سلوك إنساني تمامًا، أما هؤلاء الذين انتقدوا شُرب الخمر في عقر دار دولة الخلافة المزعومة، فإنهم نسوا أن ليالي سلاطين الإمبراطورية العثمانية كانت تموج بكل أشكال المجون، وأن صور الزهد التي يرسمونها لأسود دولة الخلافة لا وجود لها إلا في أذهانهم. لذلك لم يكن غريبًا أن نجد قائدة لواء الخنساء المرعبة تغازل قائد جيش الخلافة في الرقة وتعرض عليه الزواج، فهذه نقرة وتلك نقرة. ولا كان غريبًا في وسط السواد الذي يعمّ المدينة ولا يتحمّل اللون الأخضر ولو كان لحقيبة يد، أن تبحث نساء مخلصات لدولة الخلافة عن بقايا إنسانيتهن المنسية، فإذا بهن يتجمعّن سرًا في بيت الكوافيرة أم سعود ليتزيّن ويدخنّ ويرقصنّ ويخلعنّ الأسود السادر وينشرنّ كل ألوان الطيف على فساتينهن القصيرة، وتكون تلك مناسبة طيبة لنرى أسنان روح عندما تبتسم، وما أقل ما ابتسمَت روح منذ التآمر على اقتيادها إلى الرقة. أن تكون طبيعيًا فهذا يقتضي الاعتراف بأنك لست كلًا متجانسًا، كما يقتضي التسليم بأنك لست كائنًا رشيدًا على خط مستقيم، فالعقل مثلًا كان يقول إن تهريب البشر خارج حدود دولة الخلافة هو ضربٌ من الجنون، لكن المغامرة هي أول قاعدة في عالم البيزنس، وهكذا وجدت روح مَن يحاول تهريبها بدلًا من المرة الواحدة مرتين، في الأولى قُتل الوسيط وضاعت مصاري أبيها في الهواء، وفي المرة الثانية نجا الوسيط ونجت معه هي وابنها وبعض الرفاق، وهفهف شعرها الذهبي الطويل في مشهد الختام.
• • •
قام إذن الكاتب المتمكّن محمد هشام عبيّة بتفكيك الصورة المثالية للدواعش كما يروّجها عنهم أنصارهم. كما قام أيضًا بتفكيك ذلك الربط الميكانيكي بين الفقر والانضمام للتنظيمات الإرهابية، نعم كثير من الفقراء يسيرون لفخ الإرهاب بأقدامهم، لكن الأغنياء أيضًا يسيرون إليه بحثًا عن الذات كما فعل أكرم، أو عن السلطة كما فعل القائد أبو أسامة، أو تخففًا من الإحباط ككثير من العاملات في دار الضيافة والمنخرطات في لواء الخنساء، والأبحاث التي درست الجذور الاجتماعية للحركات الإرهابية أثبتت ذلك من سنين طويلة. ثم أن هناك تطورًا دراميًا في شخصيات عبيّة، وهذا أيضًا إنساني وطبيعي، لأن الجمود ليس من طبع البشر، وبناء الشخصيات الإنسانية ليس له كبناء الأحجار معامِلات أمان تحميه من الاهتزاز. وهكذا فإن أكرم الذي ارتجف حين أمسك بالمدفع الرشاش لأول مرة وصوّب وأخطأ ثم صوّب وأخطأ، راح بمنتهى الثبات يحتفل بخروجه من سجن الأكراد بدفقات متتالية من قذائف رشاشه، بل هو مضى خطوة أبعد وأردى ثلاثة من رفاقه لأنهم قاموا بقتل طفل لا ذنب له، وفي هذا الموقف جمع أكرم بين ملامح شخصيتيه الجديدة والقديمة: انتفض لقتل طفل صغير، وعبّر عن انتفاضته الإنسانية بمنتهى الوحشية. هل كان من الوارد أن تتغيّر شخصية روح نفسها لو طال بها المقام في دولة الخلافة أو انتقلَت للعيش في مخيّم الهول مع أسر الدواعش، بحيث يكون القتل طبيعتها الثانية؟ وارد جدًا، ووارد أيضًا بعد أن يستقّر بها المقام في لبنان ألا تعود كما كانت الفتاة المرفهة المنطلقة خريجة الجامعة الأمريكية التي كان أقصى طموحها أن ينجح مطعمها، ففي داخلها أشياء كثيرة كُسِرَت، وأظن هذا يستحق من الكاتب جزءًا ثانيًا في رمضان المقبل، وإنّا لمنتظرون.
• • •
أما كاميرا هذه الكاملة أبو ذكري فإن لها رصيدها الضخم من الصدق عند جمهورها العريض ما يجعلها حين تُخرِج تصدّق، فعندما حلّقت في سماء الرومانسية مع "واحة الغروب" للكبير بهاء طاهر طرنا معها دون أجنحة، وعندما قدمّت لنا الشر الظريف في "بمية وش" دَعَونا جميعًا لعصابة عمر وشوجر بالنجاة، وفي مسلسل "بطلوع الروح" تابعنا معارك حقيقية بين قوات سوريا الديمقراطية وإرهابيي داعش فعشنا على أعصابنا وحبسنا الأنفاس. ورأينا مستوى عالميًا من الأداء التمثيلي يستحيل معه أن نشّك أن ما حدث قد حدث فعلًا، وهنا لن أتحدث عن منّة شلبي المذهلة التي كانت قادرة من خلال عينيها.. فقط عينيها خلف النقاب أن تنقل إلينا كل مشاعر الرعب والقهر والغضب والذهول التي أخذَت تتعاقب عليها، ولا عن أحمد السعدني الذي لو لم يمثل سوى مشهد البكاء بين يدّي زوجته دارينا أو لينا لكفاه ذلك، ولا عن إلهام شاهين التي أمسكت بتفاصيل شخصية جديدة عليها تمامًا، ولا عن محمد حاتم الذي جسّد باقتدار دور الإنسان الضائع، ولا عن كل الفريق العربي الأردني المغربي السوري اللبناني الرائع الذي نقل إلينا فسيفسائية المجتمع الداعشي بألسنته المتعددة وأصوله المختلفة، لكني سأتحدّث حتى عن ظاهرة الطفل الصغير معاذ عمّار الذي لم يتجاوز عمره الخمس سنوات، فدع عنك إقناعه بالاستكانة طوال أحداث المسلسل رغم كل القبح والعنف والدمار من حوله، فإن هذا العفريت الصغير أدّى مشهدًا عجيبًا حين أزاغ نظره بمهارة فائقة بعدما سقط على رأسه وكأنه فقَد وعيه فعلًا، فكيف فعل ذلك؟ الله وحده أعلم، فإليك قبلة كبيرة يا معاذ.
• • •
إن هذا عمل جاد وضخم تأليفًا وإنتاجًا وإخراجًا وتمثيلًا، حتى موسيقى المقدمة لتامر كروان جاءت غير تقليدية ففيها انسياب وشجن وغموض وهدوء.. لكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات