قاموس الخائفين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 1:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قاموس الخائفين

نشر فى : الجمعة 5 يناير 2024 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 5 يناير 2024 - 8:40 م
بدأ العامُ الجَّديد منذ أيامٍ قلائل والأجواءُ حافلةٌ بالترقُّب؛ إذ الحالُ في عُسرٍ يشتدُّ، غالبُ الناس يُمني نفسَه بأيام أرفقَ وأطيب، وكثيرهم لا يرجو إلا السَّتر، وإن كان للكلمةِ أثر يُؤمَل، وفي القَّلبِ متسع لمَزيدٍ مِن السَّعي، وفي العقلِ لم يَزل مَوطئٌ للتحدي؛ فبابٌ آخر يُفتَح ومَساحاتٌ إضافية تُفرَد.
• • •
أسلك هذا العام دربًا أعده مختلفًا وليس بمختلف في آن، هو في إطار اللغة ومفارقها لكنه لا يشبه ما سبق، وإن كتبت خلال أعوام فائتة عن بعض المفاهيم المجردة من قبيل القوَّة والمذلَّة والمسرَّة، وعن أفعال تبدو من العامية المصرية التي نبدع فيها بينما تنتمي في حقيقتها إلى العربية الفصحى من قبيل نشف وهرى وطفش، وعن غير هذه وتلك من كلمات تحمل بين طياتها طرائف شتى؛ فسأمضي هذا العام وراء مفردات عادية مألوفة انطبعت لها في أذهاننا صورٌ نمطية، ولها أشباه ومثائل متعددة يمكن استخدام أحدها مكان الآخر؛ ما لم تكن الدقَّة في اختيار اللفظ مُهمَّةً مَرعيَّة.
• • •
المُترادفاتُ في العربيَّة وفيرةٌ، يَصعُب بَعض الأحيانِ حصرها؛ لكنّا نستخدم قليلَها ونتجاهلُ الأكثريةَ؛ إذ المألوفُ أقرب دومًا إلى الّلسَان والنِيَّة، وأسهل استحضارًا على العَقل. ثمَّة كلماتٌ نُسقِطها مِن حِساباتنا؛ نهجُرها ونهمِلُها فتتراكَم عليها الأتربةُ، وأخرى نلوكُها باستمرار مُتصورين أنها تفي بالمَطلوب. قد تبدو مَواضِع الاختلافِ بين هذه الكلمَة وتلك بسيطةً؛ لا يُمكن بعض المرَّات تمييزُها، وتلوح معانيها متقارِبةً ولَصيقة؛ لا جدوى من المُفاضلةِ بينها، مع هذا تتفاوت الإيحاءاتُ وتبقى لكلّ كلمة فيها روحٌ مُتفردة.
• • •
قاموسُ الخَوفِ واسعٌ، وقاموسُ الخائفين يمتلئُ بالخَلجَاتِ والكَّلمات؛ منها القاسي ومنها الهَيّن الخَفيف. مِن الناسِ مَن يَرتعد خوفًا ويَصفرُّ وجهُه، ويقفُ شعر رأسه ويقشعِرُّ جِلده، ومنهم من يتجمَّد مكانه ويفقد القُدرةَ على الحَركة. ثمَّة مأثور يَقول: "اللي يخاف مِن العفريت يطلع له"، والمُراد حثُّ المَرءِ على نبذِ خَوفه؛ لكننا عادةً ما نخافُ ونختار أن نقولَ: "مَن خاف سَلِم".
• • •
إذا افتقر المرءُ إلى وازِعٍ شخصيّ دفين يُوجهُه قيل: يَخاف ما يختشي، وإذا أوغلَ في الغِيّ لم يجد الناسُ ما يردعونه به سوى قَولة خَف الله، والقَّصد أن ثمَّة قوةً عُظمى تفوقُ قوةَ البشَرِ الذين لا يَحسَب الباغي حسابَهم.
• • •
حين يتردَّد الواحد ما بين جَهرٍ وكِتمان؛ تأتيه النصيحةُ الشهيرةُ لتفصلَ أمرَه؛ فمَن خافَ عليه أن يَصمتَ، ومَن قرَّر الإفصاحَ عليه أن ينفُضَ الخَوفَ بعيدًا. ثمَّة مَخاوِفٌ سِياسِيَّة، وأخرى طفُوليَّة، وهناك أيضًا مَخاوِفٌ مَشروعةٌ مَبنيَّة على أسبابٍ وحَيثِياتٍ مَنطقية. المَخاوِفُ جَّمع شائع الاستخدام من الفعل خَافَ، ولا توجد مثلًا "مَهاوب" من الفعل هَابَ، أما عن صِيغ المُبالغة فهناك الخوَّاف وكذلك الهيَّاب والهَيوب.
• • •
الذُّعْر والهَلع درجاتٌ أعلى وأشدّ من الخَوف، ولإن أصابا الشَّخصَ تخَلخَلت أوصالُه وفقد ثباتُه وربما تصرَّف دون وَعي، مع هذا يختلف الناسُ في تفاعلهم مع المُؤثّرات، فالبعضُ ينتفضُ ما صادفه كلبٌ ضَال، والبعضُ الآخر يتلقّى أزيزَ الطائراتِ وانفجارَ القنابلِ رابطَ الجأش، ويحتفظُ بالسَّكينة في مُواجهةِ فظائعٍ يَشيبُ من هولها الوِلدان.
• • •
تأتي نوباتُ الهَلع دون مُسبِّب واضح، فتتسارع ضرباتُ القلبِ ويَظن المرءُ خلالها أنه سيُسلم الروحَ، أما المَخاوفُ المَرضيَّةُ فأقل حِدَّة وإن ظلَّت بلا منطقٍ يُفسرها؛ هناك من يخافُ الأمكنةَ العاليةَ أو المُغلقة ويَرفض ولوجَها، ولا يُمكن إقناعه بحديثِ العقلِ فالخوف هنا سيدٌ مُطاع.
• • •
تواضَعنا على استخدامِ تعبيرِ "فيلم رعب"؛ لا فيلم فزع أو رهبة أو غيرها من مُفردات، والحقُّ أن الواقعَ صار أكثر إرعابًا وتخويفًا من أيّ دراما مَصنوعة. إذا جاء ذكر السينما والأفلام، فاثنان يَصعبُ نسيانهما: "شيءٌ من الخَوف" لشادية ومحمود مُرسي وحسين كمال بنهاية الستينيات، و"أرضُ الخًوف" لأحمد زكي وداوود عبد السيد بنهاية التسعينيات. ثلاثون عامًا تفصلُ فيلمين لكليهما بَصمةُ خوفٍ عميقة؛ في الأول خوفٌ سياسيٌّ من الطاغية، وفي الثاني خَوفٌ وجُوديٌّ من فُقدانِ الهُويَّة.

• • •

الخَوفُ ضَعفٌ والخائفون في حِلٍّ من اتخاذ قراراتٍ سَليمة؛ إذ يَعجز الذّهنُ عن رؤية الأمور في وضوح ما تداخلت مع عملِه المشاعرُ القوية، واكتسحت صفاءَه ولبَّدته بالغيوم؛ مع هذا ثمّة استثناءاتٌ تقع حين يستدعي الخوفُ ردةَ فعلٍ إيجابية؛ كأن يُهاجم الواحد مصدرَ خَوفِه أو يواجهه؛ فإن تمكن من هزيمته كان المكسب مضاعفًا؛ قهر الخَوف وتذليلُ عقبةٍ من الطريق.
• • •
الشخصُ مَرهوبُ الجانب يخشاه الناس؛ يعلمون عنه ما يمنعهم من العَبثِ معه. ربما كانت تصوراتُهم صحيحةٌ، وربما كانت مَحض مُبالغات لا أصل لها ولا جُذور. ثمّة راهبٌ في مِحراب العِلم وراهبٌ في الكنيسة؛ الراهبُ فاعلٌ فماذا يَرهب في الحالين؟ ربما انبثقت التَّسمية من إجلال كليهما لما ينخرط فيه ويشعر نحوه بالصغَر والضآلة؛ فالعلم العظيم يُورث الرَّهبة، ومثله القوةُ العليا المُمثلة في الإله.
• • •
أنشد النقشبنديّ من مقام البياتي "بنور وجهِك إني عائذٌ وَجِلُ، ومن يلُذ بك لن يَشقى إلى الأبد". تفسِّر المعاجمُ الوَجل بأنه حال الفَزعِ والخَوف؛ لكن الكلمةَ توحي في سياقِ الابتهال بعدم القُّدرةِ على التصرُّف لفرطِ الانفعال. "مولاي" أحد أجمل الابتهالات التي تحلّق بسامعها بعيدًا، وهو التعاون الأول بين عبقريين في عالمِ الموسيقى والغناء؛ بليغ حمدي وسيد النقشبندي.
• • •
الجُّبن نقيضُ الشجاعةِ والإقدام، وإن جَبن الواحد عن اتخاذِ مَوقفٍ فقد تركَه مَخافةَ العاقبة وصار بنكوصه مَوضِع ازدراء، أما إن هابَ المرء أمرًا أو شخصًا؛ كان المعنى أنه حذرَه واتقاه.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات