هناك متسع من الوقت للبكاء - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 10:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هناك متسع من الوقت للبكاء

نشر فى : السبت 3 فبراير 2024 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 3 فبراير 2024 - 8:10 م
تنهيدة طويلة تعقبها كلمة خسارة! الموقف نفسه يتكرر كثيرا مع أشخاص مختلفين فى الآونة الأخيرة. الكل ينظر إلى تلك النظرة الحزينة المنكسرة وينصرف إلى عمل يقوم به بعدما عبر عن ضياع شىء أو أشياء كان يعتز بها: مبنى قديم تم هدمه لأسباب واهية، قصة حب انتهت، وطن ذهب أدراج الرياح، مشروع لم يؤت ثماره، فكرة ذكية راحت هباءً، مدخرات انخفضت قيمتها، فريق كرة خسر فى كأس الأمم، ممتلكات بيعت بثمن بخس، عزيز رحل كمدا... تتعدد الخسارات والألم واحد. وهنا يصبح النَفس العميق الذى يُطلقه الفرد منا محاولة لتخفيف القلق والشعور بالتحسن، فالتنهيدة كما قيل عنها هى بقايا من بكاء لم يُبكَ.
عادة يتحدث المتخصصون عن مراحل الشعور بالأسى وكيفية اجتيازها، ويعطون نصائح «ذهبية» للتعامل مع الفشل بنجاح. كلام موزون جدا حول ترك المجال للحزن وعدم المكابرة ومقاومة الرغبة فى البكاء واستغلال الغضب لكى يكون دافعا إلى الأمام. يصفون الشعور بالأسى بأنه عاطفة قوية وأحيانا غامرة تأتى كرد فعل طبيعى للفقد، وهو ينقسم إلى نوعين: حاد يمتد إلى حوالى سنة، ومستمر أى يزيد على ذلك بحسب وقع الخسارة. قد يبدأ الأمر بالإنكار تحت تأثير الصدمة، ثم الإحباط والعجز اللذين يتحولان إلى غضب، وقد تليه المساومة «لو كنت فعلت كذا لما حدث ذلك أو لو كان فلان لم يتخذ هذا القرار لما صرنا هنا»، ثم يكون الاكتئاب مع تقييم واستيعاب حجم ما فقدناه، وفى النهاية نتقبل الواقع رغم الحزن.
• • •
أجلس وأحاول العثور على كلام أقوله لمن أطلق التنهيدة فى وجهى، لكننى لا أجد ذلك الكلام، فالخسائر متتالية والأحزان تتكاثر كل دقيقة تمر وتطحن ما تبقى فينا من أمل. الغضب العاجز يصعب تحويله إلى مكاسب، وهناك خسائر لا تقدر بثمن وتفتت القلب ببطء، مع أن الحياة ماضية فى طريقها لا تتوقف وعقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء. أقرأ بنبرة عالية أجمل قصائد المقاومة، أنا التى تحب الموسيقى والأدب والأكل والبحر وأعيش فوق السحاب.. لكن تصلنى الأخبار عن أناس ذهبوا لزيارة قراهم ومدنهم ورأوا ما تبقى من بيوتهم وعادوا وقد امتلأت أعينهم بدموع كالدم. ولا أحد يبالى.
هؤلاء فقدوا كل شىء فى لحظة. أستمع إلى كلمات عراقيين وسوريين وفلسطينيين وغيرهم كُثُر وهم يتحدثون عن ألم ضياع الأوطان، وبعضهم يحاول أن يجد وسيلة لضبط الإحساس بالفقد كما نضبط نسبة السكر والدهون فى الدم، فالحب وحده لا يكفى وأثر الصدمة مخيف على الدماغ والذاكرة والكوابيس والحياة بأسرها. تقول إحداهم إنها تنتمى لجيل مسكين خدعته منذ الصغر الشعارات السياسية البراقة ولم تكتشف حجم هزائمها إلا وهى تدق أبواب الشيخوخة، فترد أخرى أنها تبحث فى مجال عملها عن آثار الصدمات النفسية على السوريين، فهى مهتمة باضطرابات ما بعد الصدمة لدى سكان المنطقة بعد ما يسمى بالربيع العربى وتحديدا اللاجئين. حاولت لسنوات استيعاب خسارتها لأهلها وأصدقائها وبيتها بين عشية وضحاها، وسعت لفهم كيف تكون الأوامر الوحشية سهلة بالنسبة للطغاة فى حين تكون مدمرة وكارثية لشعوبهم.
• • •
هل شعر نيرون بالذنب عندما احترقت روما ومات الآلاف؟ إصرار قادة العالم حاليا على تدمير غزة دفع بهذا السؤال إلى رأسى، ربما لأن ما يحدث يشوبه الكثير من الجنون. بعد عقود طويلة سيلاحق الأجيال القادمة طوفان من المعلومات لشرح ما نمر به، كما هو الحال بالنسبة لتاريخ نيرون وحكاياته التى لا تنتهى. قيل مثلا إنه وقف فى ليلة مقمرة، عام 64 ميلاديا، يتغزل بجمال ألسنة اللهب وظل يتلو أبيات الشعر على أطلال المدينة. أشار بعض المؤرخين إلى أنه كان يرغب فى التخلص من العاصمة القديمة لبناء أخرى وفقا لمعاييره وتغيير ملامح العمران بتأسيس «نيروبوليس»، فى حين دفع آخرون بأنها افتراءات وأنه فقط استفاد من الحريق ليحقق ما يصبو إليه وأن الأمر كله كان مجرد حادثة عشوائية انصبت فى مصلحة من نهبوا المنشآت العامة.
فى كل الأحوال وعلى مر العصور نخسر الحرب حين نصبح أعداء أنفسنا، حين نستمر فى العناد والمكابرة ولا نعترف أننا أخفقنا، بل نغوص فى الوحل سعيا وراء وهم الانتصار.. عندئذ تكون الخسارة فادحة والدموع كالجمر. أوطان كاملة تحزم حقائبها وتستعد للأفول، ولسان حالنا يقول: «مع الأسف أتينا إلى الدنيا فى هذا التوقيت».
التعليقات