سلطة الرقمنة والتعددية القطبية

الأربعاء 26 نوفمبر 2025 - 9:50 م

بدأ العالم ينتقل خلال العقود الماضية من السلطة المادية المباشرة إلى سلطة أكثر حركة وسيولة قائمة على الرقمنة وهيمنة العالم الافتراضى على تمثلات الأفراد وعلى تصوراتهم بشأن كل ما يتصل بمحيطهم السياسى والاجتماعى، وسمح هذا التحوّل للقوى الكبرى، بامتلاك أدوات رقابة وسيطرة عالية الكفاءة. ويطرح هذا الواقع الجديد تحديات بشأن الصراع بين القوى العظمى التى تحاول فرض سلطتها اعتمادًا على الأنظمة المعلوماتية، وإذا كانت الولايات المتحدة استطاعت أن تُثبت، حتى الآن، ريادتها فى هذا المجال، فإن التطورات الراهنة تؤكّد أنها تواجه منافسة فائقة السرعة تزداد شراسة وبوتيرة مستمرة من قبل الصين والهند، بالشكل الذى يجعل رهان التعدّدية القطبية ينتقل من المجال الجيوسياسى إلى الفضاء الرقمى.

 


تعنى الرقمنة بشكل عام النشاط الذى يؤدى إلى تحويل المعلومات والمعطيات ومجمل الخدمات والأنشطة التى يقوم بها الإنسان من حالتها المادية المباشرة إلى وضعية تأخذ فيها شكلًا رقميًا يسهل تخزينه ومعالجته وتطويره، ومن ثم تبادله على نطاق واسع عبر الوسائط والتقنيات الحديثة. ويمثل الانترنت فى هذا السياق قطب الرحى، ويشير إلى البنية التحتية الرقمية القائمة على ما يمكن وصفه بشبكة مترابطة من الحواسيب والخوادم من أجل إتاحة الفرصة لإمكانية تبادل المعلومات انطلاقًا من قاعدة البينات الضخمة، ويعبّر إلى جانب معانيه التقنية عن ظاهرة متعدّدة الأوجه ترتبط بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويسمح فى اللحظة نفسها بالتواصل الفورى، ويتيح إنتاج ونشر ومن ثم تداول المعطيات والمعلومات خارج إكراهات الزمان والمكان، بناءً على نماذج تفاعلية يعمل على توجيهها والتحكّم فيها مطوِّرو البرمجيات ومن يقف خلفهم من مؤسسات سياسية وأمنية.
ومن الواضح أن الرقمنة التى تعمل على تحويل كل ما له صلة بالأعمال والممارسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى أنساق تستند على منجزات عالم التكنولوجيا من قبيل الذكاء الاصطناعى وشبكات الاتصال والخوارزميات والبيانات، تحوّلت إلى سلطة خطرة وعالية الكفاءة، تسمح للدول وللشركات المتعدّدة الجنسيات التى تطوِّر بنيتها التحتية، بالتحكم فى المعلومات وبإنتاج المعارف وتوظيفها لتحقيق مصالحها. ولمواجهة هذه الوضعيات الجديدة انعقدت فى شهر إبريل سنة 2014، قمّة للانترنت العالمى فى البرازيل، بالتوازى مع قيام العميل الأمريكى سنودن بكشف الممارسات التجسسية الأمريكية اعتمادًا على التكنولوجيا الرقمية التى تطورها شركات وادى السيليكون. وقد تمثل طموح المشرفين على هذه القمة فى إعادة النظر فى قواعد الحوكمة العالمية للانترنت التى تهيمن عليها واشنطن على نطاق واسع.
يصبو العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة إلى ميلاد عالم متعدّد الأقطاب، لا سيما أن الهيئات الدولية التى من المفترض أن تلعب هذا الدور فى توازن العلاقات بين الأمم قد أصابها الاهتراء مثل: الأمم المتحدة، المنظمة العالمية للتجارة، محكمة العدل الدولية، وهى الوضعية التى نتجت عنها حالة من الفوضى على مستوى العلاقات الدولية، ولعل الوضعية المأساوية التى شهدتها غزة، تمثل تجسيدًا واضحًا لهذه الحالة، إذ إنه ورغم الجهود التى بُذلت من أجل وقف عمليات القتل، فإن الطيران الإسرائيلى ما زال يرتكب جرائم مروّعة ضد المدنيين.
ويأخذ الحديث عن الذكاء الاصطناعى مشروعيته فى مثل هذه الأوضاع المتأزمة فى سياق طرح أسئلة أخلاقية مشروعة تتعلق بمراقبة القوة فى بعديها المادى والافتراضى على حد سواء، لا سيما فى سياق وضعية عامة أبان فيها القانون الدولى عجزه عن وضع حد للقوة الغاشمة المستخدمة ضد الأطفال والمدنيين الأبرياء، حيث لعبت القوة الافتراضية التى تملكها دول لا تحترم القانون الدولى، دورًا داعمًا وموجّهًا للقوة الغاشمة، كما حدث مع هواتف البيجر فى لبنان، ومن ثم فإن المنافسة التقنية غير النزيهة بين الدول فى مجال الرقمنة، تعرِّض العالم لمخاطر غير مسبوقة.
ويمكن القول إنه وفى سياق الانتشار السريع والمتزايد لسلطة الرقمنة، تبدو التعددية القطبية، وكأنها باتت تمثل واقعًا جديدًا لا يمكن تجاهله بالنظر إلى تزايد مستوى تقارب القدرات التكنولوجية للدول الكبرى، حيث إنه ورغم التفوق الرقمى الأمريكى الذى لا يمكن إنكاره فإن الدول الآسيوية وعلى رأسها الصين والهند، تملك قدرات وخيارات تكنولوجية باتت ترعب واشنطن.

 


الحسين الزاوى
جريدة الخليج الإماراتية

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة