x قد يعجبك أيضا

وثائقيات لا توثّق شيئًا!

الإثنين 22 ديسمبر 2025 - 6:40 م

شخصيًا أتابع بشغف العديد من القنوات الوثائقية التى تزخر بأفلام تتناول لمحات من التاريخ والجغرافيا والسير الذاتية، بسردٍ أخّاذ تمتزج فيه الصورة بالمؤثرات الصوتية البديعة، لتشغل بذلك مساحة واسعة من الفراغ الإعلامى الذى صنعته التفاهات والمبالغات. قمِينٌ بالفيلم الوثائقى أن يكون أداةً لكشف الواقع، لا لفرض تفسيرٍ واحدٍ عليه، وأن يمنح الأحداث والتفاسير حقها فى الظهور بتعقيدها وتناقضاتها، لا أن يُخضعها لقالبٍ أيديولوجىٍّ مُسبق الصنع.

 


غير أنّ خبراتٍ متراكمة فى دولٍ ناميةٍ عدة كشفت عن نمطٍ متكرر من الوثائقيات التى تُنتَج بأموالٍ وقنواتٍ غربية، حول أحداثٍ وشخوصٍ وتجارب من دول الجنوب، ثم لا تلبث أن تصدر فى صورة سردٍ أحادىٍّ شائه، يُملى على المشاهد ما ينبغى عليه فهمه، لا ما يحق له أن يتأمله. فى هذه الأعمال، لا يكون التوثيق غايةً، بل وسيلة؛ ولا تكون الكاميرا شاهدًا، بل حكَمًا.
تبدأ الحكاية غالبًا بنوايا مُعلَنة تبدو بريئة: فريقٌ دولى يسعى إلى «فهم الواقع»، ويطلب شهاداتٍ من أكاديميين ومسئولين ونشطاء محليين، ويَعِد بمساحةٍ عادلة للأصوات المختلفة. لكنّ الصدمة تقع بعد العرض، حين يكتشف المشاركون أن مساهماتهم قد جرى اجتزاؤها بعناية، أو إعادة ترتيبها، أو نزعها من سياقها، بحيث تخدم رسالةً واحدةً مصمتة لا تقبل النقاش. هنا لا يعود السؤال حول اختلاف وجهات النظر، بل حول نزاهة العملية برمّتها، وحول الحدود الأخلاقية الفاصلة بين السرد التحليلى والتلاعب السردى.
• • •
المشكلة الجوهرية فى هذا النمط من الوثائقيات لا تكمن فى النقد ذاته، فالنقد حقٌّ مشروع، بل فى ادّعاء الحياد مع ممارسة الانحياز. الراوى العليم، بصوته الهادئ ولغته الواثقة، يتحول إلى سلطةٍ معرفيةٍ عليا، تُعيد تفسير كل شهادةٍ محليةٍ أو أجنبية بما يتوافق مع الفرضية المسبقة للفيلم. وما لا يخدم هذه الفرضية يُستبعَد، أو يُهمَّش، أو يُختزل فى ثوانٍ لا تغيّر من مسار السرد شيئًا. وهكذا يصبح «التنوع فى الضيوف» مجرد ديكورٍ شكلى يمنح العمل شرعيةً ظاهرية، بينما تُدار الحقيقة من غرفة المونتاج لا من أرض الواقع!
هذا النمط ليس عارضًا ولا فرديًا، بل يرتبط فى كثيرٍ من الأحيان بهياكل إنتاجٍ وتمويلٍ ترى فى المجتمعات النامية موضوعًا للشرح لا شريكًا فى السرد. فالدولة أو المجتمع محلّ التوثيق يتحول إلى «حالةٍ دراسية»، تُجرَّد من تاريخها الطويل، ومن تعقيداتها الاجتماعية والسياسية، وتُختزل فى لحظة أزمةٍ أو صورةٍ صادمة تصلح للاستهلاك الإعلامى السريع. وبهذا المعنى، لا تكون الوثائقيات هنا انعكاسًا للواقع، بل إعادة إنتاجٍ لصورةٍ نمطية تُطمئن المتلقى الغربى إلى صحة تصوّراته المسبقة عن مجتمعات الإبل والأغنام، وتراكم النفايات، وانتشار الفقر والحفاء إلى أبعد الحدود، على الرغم من تفشّى تلك السلبيات فى مجتمعات أصحاب الفيلم، وأحيانًا بدرجةٍ أكبر!
وقد شهد العالم فى السنوات الأخيرة حالاتٍ عديدة اعترضت فيها دولٌ ومجتمعات على وثائقياتٍ رأت أنها مجحفة أو انتقائية أو مسيّسة، سواء عبر الاحتجاج الدبلوماسى، أو اللجوء إلى الأطر القانونية، أو عبر إنتاج خطابٍ مضاد. اللافت فى كثيرٍ من هذه الحالات أنّ الاعتراض لم يكن على الوقائع ذاتها بقدر ما كان على طريقة ترتيبها وتفسيرها، وعلى تجاهل السياق التاريخى والمؤسسى الذى يفسّرها. فالحقيقة، حين تُنزَع من سياقها، لا تظلّ حقيقةً كاملة، بل تتحول إلى أداة إقناعٍ متحيّزة.
فى الهند، على سبيل المثال، أثار وثائقى أنتجته قناة إنجليزية حول أعمال العنف فى «غوجارات» عام 2002 احتجاجاتٍ رسمية، حتى إنّ الحكومة أمرت بحظر عرضه داخل البلاد، معتبرةً أن العمل يحمل سردًا منحازًا ويشكّل إساءةً لصورة الدولة. وفى سياقٍ آخر، واجه وثائقى بعنوان Jihad Rehab انتقاداتٍ واسعة من ناشطين ومجتمعٍ أكاديمى لعدم مراعاته أخلاقيات التمثيل وحماية المصادر، إضافةً إلى انتقائه الموجَّه لمشاهد محددة تدعم رسالةً مسبقة. هذه التجارب وغيرها، مثل مراجعات سلطات البث فى المملكة المتحدة وألمانيا للوثائقيات قبل عرضها، أظهرت أن الدفاع عن الحقيقة والحق فى التجسيد العادل للواقع ليس تقييدًا للإبداع، بل حماية للموضوعية، وأنه من الممكن للجهات الرسمية أو المجتمعية أن تطالب بالتصحيح أو بالحق فى الرد دون الحاجة إلى الانسحاب الكامل من التعاون الإعلامى الدولى.
• • •
هنا يبرز السؤال الإشكالى: كيف يمكن التصدى لهذه السلوكيات دون الوقوع فى فخ الامتناع الكامل عن التعاون؟ فالانسحاب المسبق، بدافع الشك، قد يبدو حلًا وقائيًا، لكنه عمليًا يترك الساحة خاليةً لأصواتٍ أكثر تطرفًا أو أقل مهنية، فتُصاغ الرواية من طرفٍ واحد دون أى مقاومةٍ معرفية من الداخل. كما أنّ الامتناع يعمّق صورة الانغلاق، ويُسهّل اتهام المجتمعات المعنية بأنها «ترفض الشفافية» أو «تخشى الحقيقة»، وهى اتهامات كثيرًا ما تُستخدم لتبرير السرد الأحادى ذاته.
الحلّ الأكثر نجاعة يبدأ من إعادة تعريف شروط التعاون. المشاركة فى أى عملٍ وثائقى دولى ينبغى ألا تكون عملًا فرديًا مرتجلًا، بل جزءًا من إطارٍ مؤسسى واضح يحدّد حقوق وواجبات جميع الأطراف. من حق المشاركين أن يتعرّفوا على الجهة المموِّلة والمستفيد الرئيس، وعلى خط التحرير، وآليات المراجعة، وحدود المونتاج، وحق الردّ فى حال أسىء استخدام المادة المصوَّرة. هذه ليست اشتراطاتٍ تعجيزية، بل قواعد مهنية منطقية تحقق التوازن والإنصاف، ويجب على صنّاع أى عملٍ من هذا النوع أن يقدّموا كشفًا «نزيهًا» بتلك المعلومات، حتى ولو لم تُطلب منهم، بل وأن يحرصوا على تسليمها كتابةً إلى جميع المشاركين فى العمل والأطراف ذات الصلة. كذلك يتعيّن على صنّاع الفيلم أن يعرضوه أولًا على المشاركين فى صورته الختامية بعد المونتاج وقبل العرض العام، إعمالًا لمبدأ الشفافية والنزاهة.
إلى جانب ذلك، يظلّ بناء قدراتٍ محلية فى صناعة الوثائقيات أمرًا حاسمًا. فكلما امتلكت المجتمعات أدواتها السردية، تراجع احتكار الصورة من الخارج. الإنتاج المحلى الجاد، القادر على مخاطبة الجمهور الدولى بلغةٍ بصرية عالية المستوى، لا ينافس الوثائقيات الأجنبية فحسب، بل يفرض عليها معيارًا أعلى، ويجعل أى انحرافٍ أو تحيّز مكشوفًا بالمقارنة. السرد لا يُواجَه بالمنع، بل بسردٍ مضاد أكثر عمقًا وأدقّ توثيقًا.
كما أنّ الردّ على الوثائقيات المنحازة لا ينبغى أن يكون انفعاليًا أو دفاعيًا. الخطاب المضاد الفعّال هو ذلك الذى يفكّك المنهج قبل أن يناقش النتائج، ويُظهر كيف جرى الانتقاء، وكيف صيغت الأسئلة، وكيف حُذفت بعض الإجابات، وكيف أُعيد ترتيب الوقائع. هذا النوع من النقد، حين يُقدَّم بلغةٍ هادئة وحججٍ موثقة، يكون أكثر تأثيرًا فى الرأى العام الدولى من أى محاولةٍ للمنع أو التشهير.
• • •
لا يمكن إغفال البعد القانونى والأخلاقى فى هذه المواجهة. كثيرٌ من المشاركين فى وثائقياتٍ متحيّزة اكتشفوا لاحقًا أن حقوقهم فى الموافقة المستنيرة، أو فى الاستخدام العادل لشهاداتهم، قد انتُهكت. فى هذه الحالات، يصبح اللجوء إلى الأطر القانونية، سواء محلية أو دولية، وسيلةً مشروعة ليس لإسكات النقد، بل لحماية الحد الأدنى من النزاهة المهنية. فحرية التعبير لا تعنى حرية التلاعب، والوثائقى، مهما علا شأنه الفني، يظل عملًا يخضع للمساءلة.
فى الختام، ليست القضية صراعًا بين شرقٍ وغرب، ولا بين دولٍ نامية وإعلامٍ متقدم، بل بين مفهومين متباينين للتوثيق: أحدهما يرى الوثائقى أداةً لفهم العالم فى تعدديته، والآخر يستخدمه كوسيلةٍ لتأكيد رؤيةٍ واحدة تُقدَّم باعتبارها الحقيقة الوحيدة. التصدى لهذا النمط لا يكون بالانسحاب ولا بالصدام الأعمى، بل ببناء وعى مؤسسى، وقدرةٍ سردية ذاتية، وشروط تعاونٍ عادلة، وخطابٍ نقدىٍّ رصين. عندها فقط يمكن أن تستعيد الوثائقيات معناها الحقيقى، بوصفها فنًا للتوثيق لا وسيلةً لفرض الأحكام.

كاتب ومحلل اقتصادى

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة