يعكس منح «جائزة بنك السويد التذكارية لألفريد نوبل فى العلوم الاقتصادية»، والمعروفة بجائزة نوبل فى الاقتصاد، لثلاثة باحثين تمحورت إسهاماتهم العلمية حول دور الابتكار فى النمو الطويل الأمد، التحول الجذرى فى بنية الاقتصادات المعاصرة والتى باتت تقوم على المعرفة والتقنية والبيانات ورأس المال اللامادى. ففى عصر يشهد تقدمًا هائلا ومتسارعا فى مجالات الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا الرقمية، تساعد أبحاث الفائزين بالجائزة، جويل موكير من جامعة نورث وسترن الأمريكية، وفيليب أغيون من كلية لندن للاقتصاد فى بريطانيا، وبيتر هووت من جامعة زيورخ السويسرية، فى تغيير فهمنا للنمو الاقتصادى، من نموذج كمى تقليدى قائم على استهلاك واستنزاف الموارد الطبيعية بما يستتبعه من مشكلات بيئية، إلى نموذج نوعى يعتمد على قدرة المجتمعات على توليد أفكار جديدة ونشرها وتوطينها فى مؤسسات وقطاعات الاقتصاد. كما تقدم أعمال الباحثين الثلاثة تفسيرات نظرية مدعومة بأدلة عملية من دراسات تاريخية، تظهر أن الدول الناجحة فى تحقيق الازدهار طويل الأمد هى تلك التى تبنى مؤسسات قوية تدعم الابتكار، مثل قوانين الملكية الفكرية وحماية الحقوق، وتضمن انتشاره على نطاق واسع من خلال التعليم والتدريب.• • •وفى بيان الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، تم التركيز بشكل خاص على مساهمات الباحثين الثلاثة فى تحسين قياس مفهوم «التدمير الإبداعى» أو «التدمير الخلاق»، الذى أدخله الاقتصادى جوزيف شومبيتر فى القرن الماضى، والذى يشرح العملية التى تحل بها الابتكارات الجديدة محل التقنيات والأساليب القديمة، مما يؤدى إلى تطور الاقتصاد ونموه بشكل عام. فعلى سبيل المثال، عندما حلت السيارات محل العربات التى تجرها الخيول، أدى ذلك إلى إغلاق بعض الصناعات القديمة لكنه خلق فرصا جديدة فى صناعة السيارات والطرق. وقدم الفائزون أدوات تحليلية وإحصائية تساعد فى التمييز بين هذا النوع من التدمير الذى يرفع مستوى الرفاهية العامة ويحقق نموا حقيقيا مستداما، وبين ذلك الذى يقتصر على إعادة توزيع الحصص السوقية دون إضافة قيمة كبيرة، مثل المنافسة غير الإنتاجية بين الشركات. فبالنسبة لجويل موكير، فقد ركزت أبحاثه على العوامل التاريخية والثقافية التى ساهمت فى نشأة الثورة الصناعية فى أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وأوضحت إسهاماته أن ثقافة المجتمع، مثل تشجيع الفضول العلمى والتجربة، بالإضافة إلى مؤسساته مثل الجامعات والجمعيات العلمية، هى التى تشجع على تراكم المعرفة وتحدد فى النهاية ما إذا كان المجتمع يتجه نحو التقدم التقنى أو الركود الاقتصادى. أما فيليب أغيون وبيتر هووت، فقد قدمت أبحاثهما إطارا نظريا حديثا يُعرف بـ «النمو الداخلى»، والذى يوضح أن النمو الاقتصادى لا يحدث بالصدفة أو بسبب عوامل خارجية فقط، بل ينبع من قرارات المؤسسات والشركات داخل الاقتصاد نفسه، مثل استثمارها فى البحث والتطوير لتحقيق ميزة تنافسية من خلال تقديم منتجات أفضل أو عمليات إنتاج أكثر كفاءة. وبهذا، تتمكن الشركات الجديدة المبتكرة من إزاحة الشركات التقليدية المهيمنة، مما يدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام بوتيرة مستمرة ومستدامة، كما حدث مع شركات مثل أبل وجوجل وتسلا والتى غيرت سوق التكنولوجيا.بالإضافة إلى دور الابتكار كمحرك أساسى للنمو، تبرز أبحاث الفائزين أهمية نشر وتوطين الابتكار عبر مختلف القطاعات الاقتصادية لضمان استمراريته وتحويله إلى واقع حقيقى يحفز النمو ويدعم التنمية المستدامة. وللتبسيط، يمكن تشبيه الابتكار بالمحرك القوى الذى يولد الطاقة والقوة داخل السيارة، بينما الانتشار هو ناقل الحركة الذى ينقل هذه الطاقة إلى العجلات ليحرك السيارة فعليا إلى الأمام. وبالتالى، فإذا كان المحرك قويا لكنه بدون ناقل فعال، فإن السيارة ستدور فى مكانها دون تقدم حقيقى. وعلى سبيل المثال، فإذا بقيت تقنيات الذكاء الاصطناعى محصورة فى مراكز الأبحاث المتقدمة دون نقلها إلى التطبيقات العملية فى المستشفيات لتشخيص الأمراض، أو فى المزارع لتحسين الرى، أو فى المصانع لزيادة الكفاءة، فإن الفائدة ستكون محدودة. وهنا تأتى أهمية السياسات الذكية التى تعمل كمزلقات تقلل من الاحتكاك فى عملية النقل هذه، مثل توفير التمويل الحكومى للبحث، تطوير المهارات من خلال برامج التدريب، ووضع معايير تنظيمية تضمن سلامة التقنيات الجديدة. فبهذه الطريقة، يصبح النمو شاملا للجميع، حيث يستفيد العمال والمستهلكون والشركات الصغيرة، مما يقلل من الفجوات الاجتماعية ويحقق ازدهارا متوازنا.• • •مع الصعود السريع للذكاء الاصطناعى والتقنيات الرقمية، فإن إسهامات الباحثين الثلاثة تقدم خريطة طريق واضحة لتحقيق تنمية متوازنة تجمع بين النمو الاقتصادى السريع والعدالة الاجتماعية والحفاظ على البيئة. فمثلا، يوضح الباحثون كيف يمكن توجيه الابتكار نحو حل التحديات العالمية الملحة، مثل تغير المناخ، من خلال تحفيز تطوير تقنيات خضراء مثل الطاقة الشمسية أو السيارات الكهربائية، وبناء مؤسسات تدعم الاستدامة طويلة الأجل مثل اتفاقيات دولية للحد من الانبعاثات. كما يقدمون حلولا عملية لاستخدام تقنيات العصر، مثل الذكاء الاصطناعى فى الرعاية الصحية أو التعليم، دون إغفال الجوانب الاجتماعية مثل فقدان الوظائف بسبب الآلات، أو البيئية مثل استهلاك الطاقة العالى للخوادم. وبهذا، لا تقتصر مساهماتهم على تفسير كيفية حدوث النمو الاقتصادى فحسب، بل تمتد إلى تقديم أدوات وأطر عملية تساعد الحكومات والشركات على تحويله إلى نموذج تنموى شامل يحقق الازدهار للأجيال الحالية والمستقبلية، مع الحفاظ على البيئة وضمان العدالة الاجتماعية.إن هذه المساهمات البحثية التى قادت أصحابها إلى «نوبل» تُشكّل ناقوسا يدق فى آذان الدول النامية، ومنها مصر، محذرا من خطر التخلف عن ركب الثورة التقنية. فما زالت السياسات الاقتصادية فى كثير من هذه الدول تحمى الشركات الكبيرة والمملوكة لمؤسسات حكومية عبر قيود استيراد وامتيازات تنظيمية، مما يخلق بيئة طاردة للشركات الناشئة ويُعطّل آلية «الهدم الخلاق» التى تُعدّ أساس النمو فى العصر الحديث. وتتفاقم المشكلة مع غياب أسواق التمويل الفعالة القادرة على دعم الشركات الواعدة، ووجود أنظمة إفلاس بالية تسمح ببقاء «شركات الزومبى» التى تستنزف الموارد دون إنتاجية حقيقية. كما يظل القياس الفعلى للتقدم مستحيلا فى ظل ندرة البيانات الدقيقة على مستوى المنشآت. • • •لكن الأمل لا يزال قائما، فبحوث الفائزين تقدم خريطة طريق واضحة يمكن اتباعها لإحداث تحول جذرى فى الرؤية والنهج. فبدلا من الاكتفاء ببناء الجزر التقنية المنعزلة، يجب إنشاء نظام اقتصادى متكامل يحوّل الأفكار إلى تطبيقات عملية فى كل القطاعات. وهذا يبدأ بإعادة هيكلة التعليم ليركز على بناء المهارات العملية كالبرمجة وتحليل البيانات، مما يمكن العاملين من توظيف أدوات الذكاء الاصطناعى بفعالية. كما أن توسيع برامج التعليم التقنى والتعلم المستمر عبر المنصات الرقمية أصبح ضرورة حتمية للحفاظ على تنافسية القوى العاملة. وفى الأساس، لا يمكن الحديث عن تحول رقمى حقيقى دون بنية تحتية رقمية شاملة. فأنظمة الدفع الإلكترونى ومنصات تبادل البيانات الآمنة تمثل العمود الفقرى لأى اقتصاد رقمى ناشئ. لكن هذا التوجه يجب أن يرافقه تطوير تشريعات ذكية للذكاء الاصطناعى تحقق التوازن بين حماية الخصوصية والحفاظ على حيوية الابتكار. وعلى صعيد الحوافز، ينبغى توجيه الدعم المحدود زمنيا - كالاعتمادات الضريبية والتمويل الميسر - نحو المجالات التى تتمتع فيها الدولة بميزة نسبية. ففى مصر، يمكن أن تركز هذه الحوافز على الزراعة الذكية والتكنولوجيا المالية وتقنيات التكيف المناخى، مع اشتراط معايير واضحة لمنع الاحتكار وضمان المنافسة العادلة. ولعل أحد أهم الدروس المستفادة من أبحاث الفائزين هو أن التحدى الحقيقى لا يكمن فى نقص التكنولوجيا، بل فى عجز معظم الشركات - خاصة الصغيرة والمتوسطة - عن الوصول إليها. لذا يجب تصميم برامج دعم ترتبط بتحقيق نتائج قابلة للقياس، كاعتماد وتطبيق أنظمة تخطيط موارد أو أنظمة جرد ذكية، وليس بناءً على حجم الشركة فقط. وأخيرا، يؤكد الفائزون بنوبل أن التقدم لا يحدث فى معزل عن العالم. فالحفاظ على انفتاح الاقتصاد على الأفكار والمهارات والسلع الوسيطة، والسعى للاعتراف المتبادل بالمعايير الرقمية، وبناء شراكات بحثية حقيقية مع المراكز العالمية - كلها عوامل ستسهم فى إدماج الاقتصاد فى الشبكات المعرفية العالمية، وهى نفس الآلية التى أوضحها موكير فى أبحاثه التاريخية كأساس للنهضة الصناعية. ومن خلال هذه الرؤية الشاملة، يمكن أن تتحول التحديات التقنية الحالية إلى فرص حقيقية للقفز إلى مصاف الاقتصادات المبتكرة. إن رسالة «نوبل» لهذا العام واضحة لا تحتمل التأويل: لا نمو بلا ابتكار، ولا ابتكار بلا مؤسسات قوية، وإما اقتصادٌ يتيح المنافسة ويكافئ الإبداع ويربط الدعم بنتائج قابلة للقياس، وإما البقاء على هامش اقتصادٍ عالمى تعيد صياغته خوارزميات الثورة التقنية.
مقالات اليوم حسن المستكاوي سوبر بيراميدز! عبد الله السناوي «مانديلا الفلسطينى».. وما بعد اتفاق غزة! عماد الدين حسين 36 ساعة بين إسطنبول وموسكو محمد سعد عبدالحفيظ نتنياهو وترامب و«ترويض غزة» خولة مطر انكسرت المرايا.. عن خسارة الأصدقاء أتحدث مصطفى كامل السيد ملاحظات حول السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية دوبرافكا شويتسا بحر متوسطى يلبى احتياجات شعوبه صحافة عربية أن تكون سعيدًا فى كبرك
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك