انكسرت المرايا.. عن خسارة الأصدقاء أتحدث

الأحد 19 أكتوبر 2025 - 7:55 م

المشاهد تتفاعل وأهل غزة فى الانتظار، قفزت تلك المقابلة ــ لا أدرى من أين ــ لممثل هوليوودى موهوب بشكل استثنائى وهو يجيب على سؤال بكثير من الأسى أو ربما هو الخيبة «نعم لقد خسرت الكثير من الأصدقاء خلال العامين المنصرمين». وراح يصف ما الذى حدث له وبدا فى تلك اللحظة يردد كلامًا يفهمه كثيرون منا رغم محاولتهم لتفادى الإجابة. هناك خسائر تراكمت فوق وجع الصور القادمة من غزة منذ السابع من أكتوبر، فوق القتل وتقطيع الرءوس والبطش وبتر الأطراف والدم، كثير منه، الذى سقى الأرض الطاهرة بنزيف أبنائها الصادقين فى عشقها. فى نفس تلك اللحظة التى اشتعلت فيها صور الأطفال تحت الركام، والنساء الشامخات فوق الموت والدمار، والشباب المحترقين بين الأنقاض، بدأ اختبار إنسانيتنا ربما عبر كثير من الأشياء البسيطة، كلمة على صفحة، صورة على حساب شخصى، تعليق فى جلسة خاصة أو عامة. هنا وهناك كانت المرايا التى تعكس الوجوه من حولنا تنكسر واحدة تلو الأخرى، تكشف ما وراء الأقنعة التى طالما خدعتنا بتزين الكلمات أو بدفء الصحبة اللحظية.
• • •
بعضهم صمت ــ ربما خوفا أو حتى استسلاما ــ وهو يستمع لمسئوليه وحكامه يرددون عليه «كن واقعيًا هم أقوى» تلك الكذبة التى غرسوها فى العقول عبر منابرهم المنتشرة كالذباب! وهناك من راح يبرر للقاتل أو يعبر عن حزنه وأساه لأنه لم ينتصر ويخلص عليهم جميعا.. نعم كلهم يعنى كلهم كما قال ذاك من خلف تلك الشاشة المشبوهة ليس فقط المقاومين، بل كل من يقف معهم أو حتى يكون فى ظلهم! وراح يبرر للقاتل ويجد له ولحرب إبادته ومشروعه التوسعى الكثير من الأعذار! تختصر فى كلمتين «نحن السبب»! ليس هذا انقسامًا فى التوجه السياسى أو هو فى وجهات النظر والرأى أو هو حتى فيما يسمى بالواقعية السياسية، لم يكن كل ذلك، بل كان آخر امتحان صعب لإنسانيتنا جميعا ليس فقط العرب والمسلمون والمسيحيون واليهود الحق، بل كل البشرية.
• • •
لا يهم ما يقوله المحلل السياسى أو هكذا يحب أن يصف نفسه، أو حتى المحلل العسكرى، بل الأهم من هم أقرب لنا، أولئك الذين سقطوا كأحجار الشطرنج واحدًا تلو الآخر. تلك الانكسارات الصغيرة التى لا يراها الآخرون. رسائل لم تعد تصل، صداقات أُغلقت أبوابها، مواعيد اعتذرنا عنها دون أن نبرر، لقاءات ملغاة لأننا لم نعد قادرين على الجلوس مع من يبررون قتل أطفالنا أو يعتبرونه «تفصيلًا ثانويًا» فى حرب أكبر. كل تلك التفاصيل صارت تشكّل جدارًا بيننا وبينهم، جدارًا من نار ودمع وصور لا تُمحى.
• • •
لم نخسرهم لأننا نحب الخصام، بل خسرناهم لأنهم تخلوا عن أبسط اختبار للضمير. إنسانيتنا ليست خيارًا انتقائيًا نمارسه حيث نشاء، بل هى معيار وجودنا فى هذا العالم. حين سقطت غزة تحت الركام، سقطت معها أقنعة كثيرة. فجأة، صرنا نعيد قراءة كلمات قديمة قالها أصدقاء فى مناسبات سابقة، ونفهمها الآن بشكل مختلف. كم من نكتة مرّت بلا تعليق، أو تبرير قاسٍ لمأساة ما، أو استهزاء بشعار الحرية، لم نلتفت إليه إلا حين صار الدم الفلسطينى معيارًا وحيدًا للانحياز.
• • •
فى النهاية، لم يعد السؤال: كم صديقًا خسرنا؟ بل صار: كم صديقًا حقيقيًا كسبنا؟ لقد كانت المرايا تنكسر، نعم، لكن خلف كل مرآة مكسورة كان هناك ضوء صغير يلمع، يذكّرنا أن الحقيقة لا تضيع، وأن الدم لا يُمحى، وأن من خسرناه لم يكن يستحق أن يبقى.
• • •
لقد علّمنا هذا الطوفان أن الصداقة ليست ذاكرة ولا صورة قديمة، بل هى موقف فى لحظة الحقيقة. من لم يرَ دم أطفال غزة كما يرى دم أطفاله، لم يعد قادرًا على أن يكون صديقًا لنا. ومن اختار أن يقول كلمة حق رغم الخسائر، صار أقرب إلينا من أى صداقة عمرها سنوات. ومن يسكن فى تلك البقعة البعيدة مثل كولومبيا ويبكى لبكاء أهلنا وينتصر لهم صار هو الأقرب من الجار وصديق العمر وكثير من الأقارب.
• • •
انكسرت المرايا، نعم، لكنها حين تكسّرت كشفت وجوهنا الحقيقية، وأعادت إلينا قدرتنا على أن ننظر إلى أنفسنا بلا خوف ولا خجل. نحن اليوم ربما أوضح، أصدق، وأقوى، لأننا تعلّمنا أن الصداقة الحقيقية تُبنى على الضمير، لا على الصور والذكريات.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة