ليس ضعفًا أن تلتزم مصر استراتيجيًا بالسلام مع إسرائيل دون تفريط فى مقتضيات حماية سيادتها وأمنها القومى، دون تنازل عن دفاعها عن الشعب الفلسطينى وحقوقه، ودون تجاهل لحتمية العمل العربى المشترك لاستعادة قدر من الأمن الإقليمى فى وجه العدوانية الإسرائيلية المتمادية. وفى المقابل، ليس فى الحديث الذى صار منتشرًا عن "الحرب القادمة لا محالة"، ولا فيما يتفرع عنه من مقارنات يتداولها البعض عن القدرات العسكرية هنا وهناك، ليس فى هذا أو ذاك سوى قراءة خاطئة للسياسة المصرية التى لا تعدم البدائل لتوظيف السلام لمنع الاعتداء على سيادتها وأمنها، بالحيلولة دون تهجير الفلسطينيين إليها، ولتعبئة الجهود الإقليمية والدولية لوقف حرب الإبادة وجرائم التهجير والتجويع فى غزة وجرائم الضم والاستيطان فى الضفة الغربية، ولدفع العرب إلى اعتماد آليات جماعية للأمن فى الشرق الأوسط.
• • •
من جهة أولى، تستطيع القاهرة، إزاء مواصلة حكومة تل أبيب الحرب فى غزة والأوضاع الإنسانية الكارثية لأكثر من مليونين من الفلسطينيين، أن تبلغ (مجدّدًا) رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والمؤسسات المعنية بالسياسة الخارجية والقضايا الأمنية والعسكرية فى إسرائيل أن جرائمهم الممنهجة فى القطاع تفرض ضغوطًا متصاعدة على الحدود المصرية وتهدد سلامتها واستقرارها بما لذلك من تبعات خطيرة، وأن بلادهم تُخِلّ من ثم بمعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية الموقعة فى 1979 والسارية إلى اليوم، والتى تلزم الطرفين بالاحترام المتبادل للسيادة الوطنية والأمن القومى وسلامة الحدود، وأن الإخلال بالمعاهدة يعرّض حالة السلم للخطر.
من جهة ثانية، يمكن للقاهرة أن تشرع تدريجيًا فى تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية والتبادل التجارى والاقتصادى والتنسيق الأمنى بينها وبين تل أبيب، وهو الأمر الذى تواترت بشأنه أنباء متلاحقة خلال الأيام الماضية، والذى إن ثبتت صحته يكون تصعيدًا محسوبًا ومطلوبًا من قبل الحكومة المصرية إزاء الرفض الإسرائيلى لوقف الحرب، وإفشالها المتعمّد لكافة جهود وقف إطلاق النار، ومنعها إنفاذ المساعدات الإنسانية والطبية والإغاثية اللازمة لغزة، واستمرار الترويج من جانب حكومة نتنياهو المتطرفة لجرائم تهجير الفلسطينيين داخل غزة وخارجها، بما يمثّله ذلك من تهديد مباشر لسيادة وأمن مصر.
من جهة ثالثة، يتعين على القاهرة أن تشرح لإدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والولايات المتحدة هى الدولة الضامنة لمعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، حقيقة أن ما تفعله حكومة تل أبيب فى غزة يرتّب من النتائج الكارثية والضغوط المتصاعدة فيما يخص مصر ما يعدّ إخلالًا مباشرًا من جانب إسرائيل بالتزامات المعاهدة، وأن على واشنطن أن تتدخل على نحو فورى للحفاظ على حالة السلم بين البلدين.
تستطيع الحكومة المصرية، وهى اليوم فى موقف قوة لكونها لم تُخِلّ بالتزامات المعاهدة ولم تقم بخطوات تتناقض مع روح أو نصوص المعاهدة (بما فى ذلك تفاصيل الوجود العسكرى فى سيناء)، ولم تتخلَّ عن دبلوماسيتها الهادئة على الرغم من مواصلة الحكومة الإسرائيلية للحرب فى غزة منذ أكتوبر 2023 وتمادى عدوانيتها العسكرية فى الشرق الأوسط، أن تكرّر للإدارة الأمريكية أن استمرار الأوضاع الكارثية فى القطاع، والترويج لخطط تهجير الفلسطينيين، والضغوط المتنامية على الحدود، تمثّل جميعها خطوطًا حمراء لا يمكن للقاهرة الصمت عليها، وتستدعى فعلًا سريعًا من قبل واشنطن كراعية للسلام المصرى- الإسرائيلى باتجاه مطالبة تل أبيب بتغيير سياساتها وممارساتها.
• • •
من جهة رابعة، تستطيع القاهرة توظيف الشبكة الواسعة لعلاقاتها الإقليمية والدولية لمطالبة الشركاء فى الشرق الأوسط والقوى الكبرى كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبى، والمراكز المؤثرة فى الجنوب العالمى كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، بدعم الخطوات التى ستتخذها ضد إسرائيل بسبب إخلالها بمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية (كما ذكرت أعلاه بتخفيض العلاقات الدبلوماسية والتبادل التجارى والاقتصادى والتنسيق الأمنى)، وبتأييد سياستها الداعية إلى وقف فورى لإطلاق النار وإنفاذ المساعدات اللازمة لغزة، ورفض شامل لخطط التهجير الإجرامية، وبالتضامن معها فى دفاعها عن سيادتها وأمنها دون التخلى عن التزامها الاستراتيجى بالسلام وبالحوار والوساطة والأدوات التفاوضية لإنهاء الحروب وحل الصراعات.
من جهة خامسة، يتعين على الحكومة المصرية أن تواصل حشد التأييد فى أروقة المنظمات الإقليمية والدولية لسياستها ولإصرارها على الدفاع عن السيادة الوطنية والأمن القومى دون تفريط فى التزامها بالسلام. تجمعات إقليمية كجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقى، وتجمعات دولية تتسم بالنشاط والحيوية كتجمع البريكس ومنظمة شنجهاى للتعاون، ومنظمات دولية كالأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة، جميعها تقدم فضاءات للتعبير الصريح عن أولويات القاهرة ولصياغة توافق عالمى واسع لا يطالب حكومة تل أبيب فقط بقبول وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب والامتناع عن ارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب الفلسطينى والتوقف عن عدوانيتها العسكرية فى الشرق الأوسط، بل يطالبها أيضًا بالالتزام بمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ويعبّر عن القلق المتصاعد جرّاء التهديدات والأخطار التى تتعرض لها بفعل ما يحدث فى غزة.
من جهة سادسة، يمكن للقاهرة أن تطور سياستها الملتزمة بالسلام ودبلوماسيتها القائمة على الحوار والوساطة والتفاوض لإنهاء الحروب والصراعات فى الشرق الأوسط إلى إطلاق مبادرات جديدة أو إحياء مبادرات قديمة لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، وللحد من سباقات التسلح التقليدية وغير التقليدية، ولاعتماد أطر وأدوات للأمن الجماعى، ودعوة الشركاء الإقليميين إلى تبنّيها والقوى الدولية إلى تأييدها. فمثل هذه المبادرات يمكن أن ترفع من سقف الضغوط الإقليمية والدولية التى تواجهها حكومة تل أبيب، وهى الطرف الوحيد الثابت عليه امتلاك أسلحة دمار شامل، والمتورط الوحيد اليوم فى اعتداءات عسكرية متتالية فى الشرق الأوسط، والمصدر الرئيس لتهديد الأمن الإقليمى بسبب السياسات والممارسات المارقة المرتكبة ضد الفلسطينيين وفى لبنان وسوريا وصولًا إلى قطر.
بإطلاق وإحياء مثل هذه المبادرات أيضًا، وهى فى المجمل تستهدف استعادة السلم والأمن والاستقرار فى الشرق الأوسط، تستطيع الحكومة المصرية الرد بفعالية على التهديدات الإسرائيلية وردعها دون التخلى عن التزامها الاستراتيجى بالسلام.
أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى