x قد يعجبك أيضا

والله ما قصّرْت!

الجمعة 19 سبتمبر 2025 - 9:05 م

ذات مرة فى بلد عربى بينما كنت أخرج من السوبر ماركت صادفت بالقرب من سيارتى شخصًا تبدو عليه الحيرة، فلما سألته عما به أخبرنى أن سيارته لا تدور، ولما كانت وجهته فى طريقى فقد استقبلته وأفسحت مساحة لأغراضه فى شنطة السيارة. أخبرنى ونحن فى الطريق بأنه لم يشأ انتظار الميكانيكى لأن لديه أشياء تحتاجها زوجته لإعداد الطعام لضيوف سيزورونهم. المهم أن الحديث تواصل بيننا إلى أن وصلنا أمام بيته فنزل وقال وهو يحيينى مودعًا: والله ما قصرت.

مرة أخرى كنت أهمّ بدخول السينما عندما اقترب منى صبى فى سن التلمذة وسألنى فى خجل أن أكمل له باقى ثمن تذكرة السينما. كان المطلوب قليلا والولد فى عمر أبنائى فلم أتردد فى منحه ما يحتاجه، وهو ما دعاه لأن يبتسم فى وجهى قائلًا: والله ما قصرت. ومرة ثالثة فى المستوصف الطبى ألمح رجلًا يسند مريضًا قبل أن يتهاوى هذا الأخير ويسقط على الأرض. تعاونت وساعدت فى توصيله إلى غرفة الطبيب فقام ابنه الذى كان يسنده بالتربيت على كتفى قائلًا: والله ما قصرت. بعد ذلك اعتدت على سماع هذه الجملة تتردد بين الناس طوال الوقت، وفهمت أنها شائعة فى كل بلاد الخليج. أقول لكم الحق.. لم تعجبنى أبدًا ولم أشعر أن بهذه الجملة ما يدل على الشكر أو الامتنان، لكنها تفترض لدى قائلها أن خدمته واجبةٌ علىّ وأننى أديت الواجب وأتممتها ولهذا فإن كل ما يقدمه لى هو شهادة يعترف فيها بحسن سيرى وسلوكى وأننى كنت عند حسن ظنه عندما فعلت ما كان يتوجب أن أفعله. هذا ما أشعر به حين يقول لى أحد «والله ما قصرت» خصوصًا إذا كان هذا الشخص غريبًا عنى ولا تربطنى به صلة وبالتأكيد ليس صاحب أفضال أو أياد بيضاء تجعلنى راغبا فى تكريمه ورد جمايله. لا أفهم لماذا لا يوجهون كلمة شكر صريحة مشفوعة بدعوة حلوة مثلما نفعل فى مصر وفى بلاد عربية أخرى، فنحن فى هذه المواقف نقول ألف شكر، ربنا يكرمك، نردها لك فى الأفراح، ما نتحرمش من جمايلك.. وفى تونس يقولون مع كلمات الشكر: يعيشك، وفى المغرب يقولون شكرًا متبوعة بدعوة حلوة تقول: الله يرحم والديك. كل هذا طيب ويحمل معنى التقدير، لكن «والله ما قصرت» هذه لا تصلح فى مقام التعبير عن الشعور بالامتنان لكنها جملة ملغومة تتظاهر بأنها طيّبة فى حين أنها تحمل كل معانى الاستعلاء حيث يتصور صاحبها أنه ليس من حقى أن أعتذر عما يطلبه، أو يتصور أنّ من حقه أن يختبرنى، وعند تنفيذ المطلوب أكون قد نجحت فى الاختبار فأحصل منه على شهادة جدارة بأننى شخص كويس يؤدى ما يطلب منه بدون تقصير!. إن التشجيع الإيجابى والشكر الواضح يقتضى أن تقول: أحسنت وتفضلت وكنت صاحب اليد العليا ولهذا تستحق أن نقول لك برافو ونقول لك هايل ورائع وجميل وما فعلته يفوق التوقعات، لكن «ما قصرت» هى من قبيل الحافز السلبى، والفرق بين الحافز السلبى والحافز الإيجابى كبير كما نعلم، فالحافز الإيجابى هو مكافأة نقدمها لمن أجاد وتفوق، أما الحافز السلبى فهو أن نجعل الفائز ينجو من العقاب.. حسبه أن ينجو من العقاب إذا فعل ما كلفناه به وتوقعناه منه.

وقد يكون من الطبيعى أن تقال هذه الجملة المائعة بين الأخ وأخيه أو بين الصديق وصديقه، فحينها يكون العشم وحسن التوقع موجودا ومفترضًا، لكنها لا تليق بين الأغراب أو مع من لا يجوز لك أن تسائله إن امتنع أو رفض، ولا يصح أن نعتبر الرفض هنا تقصيرًا عن أداء الواجب. لقد اعتدنا دائماً أن نقول إن الملافظ سعد ومن ضمن هذا السعد أن يكون الثناء صريحًا والامتنان واضحًا حتى لو كان الأمر مجرد توصيلة بالسيارة لم تكلفنا شيئًا، أما والله ما قصرت هذه فتفيد بأن عدم الاستجابة تعتبر تقصيرًا.

فى ذات السياق يمكن أن نروى طرفة تتعلق بالرجل العربى الذى ذهب إلى صالون الحلاقة وجلس على الكرسى تحت يد الحلاق المصرى. بدأ الحلاق الشغل وتفنن فى قص وتسوية الشعر من الأمام والخلف واستخدم أنظف الأدوات وأطيب العطور ولما فرغ نظر للزبون فى سعادة بعد أن أحضر المرآة الصغيرة وجعل الزبون يرى قفاه ثم سأله: كده كويس؟ فما كان من الزبون إلا أن قال: والله ما قصرت!. هذا الرد أصاب الحلاق بإحباط. لقد كان يظن أن الزبون سيسعد بهذا الطول المناسب فإذا به يريد الشعر أقصر. لا بأس.. الزبون دائمًا على حق. أمسك الحلاق بالمقص والمشط من جديد وبدأ يقص فلما اعتقد أن الطول أصبح مناسبًا سأل الرجل: هيه.. كده كويس؟ فقال: والله ما قصرت!.. ظل الوضع على هذا المنوال إلى أن خرج الرجل من تحت يد الحلاق وقد فقد شعره بالكامل.. وأعتقد أن هذا الزبون رغم براءته وحسن نيته إلا أنه كان ضحية هذه المقولة التى اعتاد أن يقولها بدلًا من كلمة شكرًا.

قال والله ما قصرت قال!

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة