«غزة كل يوم» نَصٌ مبصر كتبه محمود درويش

الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 - 7:05 م

خلال اشتغالى على الإنتاج الأدبى للشاعر الفلسطينى محمود درويش خلال الفترة القصيرة التى عاشها فى القاهرة منذ فبراير 1971 وحتى مغادرته لها منتصف 1973 لفت نظرى مقال نشره فى صحيفة الأهرام فى 3 ديسمبر 1971  بعنوان (غزة كل يوم) وهذا المقال أعاد درويش استعمال بعض عباراته فى نص تضمنه كتابه (يوميات الحزن العادى) وهو أول كتبه النثرية وعلى الرغم من ذلك لم يلتفت الذين تصدوا لدراسة إنتاج درويش لأهمية هذا النص الذى أنشره، خاصة بعد أن نصحنى بذلك البروفيسور ياسر سليمان رئيس مجلس أمناء جائزة البوكر العربية، بعد اطلاعه عليها وقد بادر بترجمته إلى الإنجليزية قبل فترة، لافتا إلى أن النص يخاطب ما يجرى حولنا كما يتماهى معه. لذلك قررت إتاحته اليوم تحية للشعب الفلسطينى ونضاله فى غزة ولكى ننظر إلى قدرة الشاعر الراحل على أن يكون شاعرا رؤيويا.

• • •          

«غزة كل يوم» 

غزة لا تواصل انفجارها اليومى، لنقول لها شكرًا!

وغزة لا تواصل انقضاضها اليومى على الموت لكى نكتب عنها قصيدة.

وغزة لا تجد متسعًا من الوقت لكى تقرأ تحياتنا.

ولا بريد إلى غزة لأنها محاصرة بالأمل والأعداء.

ورغم ذلك، نقف اليوم، وكل يوم لكى نصلى لاسمها النادر بين الأسماء.

 ليس صحيحًا قول الإسرائيليين إنهم عاشوا أشد الليالى سوادًا فى غزة ليلة أمس الأول. كل لياليهم وأيامهم هناك سوداء، لأن جسد المقاومة فى غزة ما زال ينبض حرائق مرادفة لحضور المحتل فينا. لكن الغزاة المسلحين بالبنادق والأساطير تصوروا، على ما يبدو، إن استشهاد قائد قوات التحرير الشعبية زياد الحسينى فى الأسبوع الماضى، قد يضفى سواد أيامهم ولياليهم فى غزة بعض النور والهدوء، وقد يدفع أهالى غزة إلى صراعات داخلية بسبب الظروف الغامضة لموت البطل، فالغزاة لا يعرفون طبيعة العرب الحقيقية حين يودعون شهداءهم. قد فاجأتهم غزة ــ وهى ينبوع المفآجات ــ بأنها سرعان ما ودعت بطلها الشاب وعادت إلى ممارسة إعلان جدارتها بالحياة والشرف والكرامة؛ لأنها تعرف أن هذه القيم تتحول إلى كلمات يابسة فى ظل الخضوع للاحتلال. ومقاومة الاحتلال هى الضمانة الوحيدة لصيانة ما عادها من قيم.

إن غزة تحرر نفسها وتاريخها كل ساعة، وتصون قيمها بالاقتراب الشديد.. بالالتصاق.. بالالتحام بالموت.

لم تعد غزة مدينة.

إنها ساحة حرب مشتعلة تمتحن فيها انتصارات العدو وآماله وقيمه.

ليس بوسع العدو أن يقول إنه انتصر على غزة، فالاحتلال ليس هو النصر النهائى. إرادة غزة باقية فى التماع الحق والدم.

وهى المنتصرة.

وليس بوسع العدو أن يطئمن إلى آماله، فالأمر الواقع الذى يسعى إلى خلقه هناك على خرافة الزمن يصطدم بسخرية الزمن، وبتفتت آمال الغزاة فى أزقة غزة وأجساد أبنائها.

وليس بوسع العدو أن يتباهى بقيمه. إنها تتبلور فى صيغتها الحقيقية الوحيدة، الجريمة.

لم تعد غزة مدينة.

 صارت رمزا لطاقات العرب وصارت لافتة للمستقبل.

 وغزة التى يصفها العدو دائما بالكابوس فى تاريخه الأسود، هى طيف الأمل الأبيض للعرب.. هى النقطة النورانية التى تتسع وتتسع فى دائرة متوهجة تشعل قلوب العرب المحتلين وآملهم.

ليست غزة كفارة ذنوب كما يقول البعض، ولكنها نموذج عمل، وإعلان إرادة.

يأتى يوم.. يأتى يوم لا تكون فيه غزة اسمًا نادرًا بين الأسماء.

كل المدن المحتلة تتحول فيها الحجارة إلى أحلام، والأحلام إلى حجارة.

شكرا يا غزة.. شكرا يا غزة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة