مصر والجغرافيا.. دوافع معلنة وأهداف مستترة

الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 - 6:36 م

 

رأينا فى مقالين متتابعين المحتويات التى ضمها كتاب «مصر والجغرافيا» من تأليف الإيطالى فريدريك بونولا فى عام 1889. وفى مقال اليوم الختامى نتعرف على الأهداف المصرية من جهودها بالاعتناء بالجغرافيا فى القرن 19.

لقد تنوعت أوجه الاستعانة بالخبراء الأجانب لتحقيق خمسة أهداف رئيسة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر وهى:

     •    الجغرافيا العسكرية تمهيدًا للحملات الساعية إلى بسط السيطرة والسيادة وامتد ذلك إلى شبه جزيرة العرب، بلاد الشام، والصحراء الليبية  والسودان. وكان الخبراء هنا من ضباط عسكريين وأطباء لأمراض المناطق المتوطنة ومدربين ميدانيين.

     •    استكشافات المعادن والخامات فى الأراضى المصرية وخاصة خامات الكبريت اللازمة لاختراع البارود من صحراء مصر الشرقية، فضلا عن خامات الذهب التى كانت الميزانية المصرية فى حاجة ماسة إليها وهنا كانت الحملات تتجه إلى السودان ومشارف الحبشة وكانت تنقب أيضا فى سيناء قبل أن يبلغ اليأس مداه من إمكانية العثور على ذهب فى إقليم الطور وما حوله.

     •    تنشيط التجارة بين مصر والعمق الإفريقى لضمان الحصول على سلع ومنتجات لا تتوفرا فى البيئة المصرية.

     •    الحصول على رقيق للتجنيد الإجبارى فى الجيش من الأقاليم البعيدة، سيما الرجال الأشداء من حوض النيل، وكان ذلك جليا فى عهد محمد على قبل أن تتحول مصر فى عهد خلفائه إلى محاربة تجارة الرقيق وإيقاف التجارة بالبشر بضغوط أوروبية. 

     •    تطهير مجرى النيل والقنوات الآخذة منه لضمان تدفق حركة الملاحة ومراقبة الأوضاع الأمنية والحيلولة دون دخول منافسين أوروبيين للنفوذ المصرى وفى مقدمتهم إنجلترا ولاحقا فرنسا وإيطاليا.

الخبراء.. دوافع ومآلات

يكشف تحليل السياق التاريخى عن وجود ثلاثة دوافع رئيسة ساقت هؤلاء العلماء إلى العمل فى مصر:

     •    الشغف والاستكشاف والبحث وتحقيق إنجاز علمى للفن أو المهنة التى يحترفها ذلك الخبير أو المستكشف المغامر.

     •    آخرون كانوا جواسيس (وكل جاسوس فى الخارج بطل فى وطنه!) قدموا نتائج هذه الأعمال والرحلات والاستكشافات لدولهم فى نفس الوقت الذى كانوا يقدمونه لخدمة الحاكم فى مصر. وفى بعض الحالات -كما فى الاستكشاف العلمى والبحث الجغرافى والأنثروبولوجى ورسم الخرائط - لم يكن الحكام فى مصر يتلقون هذه النتائج فى صورتها الأولى إلا بعد أن يعود العالِم إلى وطنه ويكتب وينتج أعمالا علمية مطبوعة أو يلقيها فى محاضرات فى الجمعيات الجغرافية العالمية ثم تصل نسختها لاحقا إلى مصر فيستفيد منها رجال الإدارة والحكم، وبدهى أنها لم تكن تصل لعوام الشعب المصرى الذى لم يكن يعرف لغات أجنبية وكانت نسبة الأمية بلغته الأم مرتفعة للغاية.

     •    وبعضهم كان يخدم المجد الشخصى والحياة الفاخرة وإشباع رغبات الثراء وكان هؤلاء غالبا ممن عاشوا على مقربة من بلاط السلطة ودائرة المستشارين وانخرطوا فى الاستيلاء على الآثار وتهريبها للخارج تحت بصر محمد على نفسه.

ورغم كل ما جمعه العلماء من معلومات وأدلة أثرية ورسموا من خرائط  فإنهم لم يكونوا فى أغلب الأحوال محل عداء أو كراهية مع الأهالى والسكان المحليين. لقد كانت علاقات الكراهية والصدام والحرب تتم دوما بين الجيش الغازى وهؤلاء السكان، وكان العلماء يعملون فى أغلب الأحوال فى حماية الجيش وغير مشتبكين بأى حال من الأحوال مع الأهالى والسكان المحليين.

ولا يعنى هذا أن مصير هؤلاء العلماء كان آمنًا يقتنصون فيه المال والشهرة دومًا، إذا انتهت بهم الأقدار نهايات مأساوية فبعضهم مسه الجنون (فرديانى Frediani) وبعضه مات مقتولًا على أيد الأهالى (إرنست لينان Ernest Bellefonds نجل لينان دو بلفون Linant de Bellefonds) أو خلال جمعه لبيانات عن الرحلة (باشو Pacho) وبعضه ضربته الأمراض والعلل مثل مهندس الملاحة كازامورا Casamurat الذى أصابته الحمى فى النيل الأزرق وحين عاد طلبًا للشفاء لم يكد يصل إلى الخرطوم إلا وافته المنية فى سبتمبر 1826. وكان أقلهم ضررًا من يتلقى لعنات وتوبيخ محمد على إذا فشل فى أداء مهمته ويحرم من المزايا والعطايا ويطرد من الخدمة.

وليس من المستبعد أنه كانت هناك حالة من شبه الاحتكار للمعلومات قام بها هؤلاء العلماء والخبراء وهناك حالات مثبتة تاريخيًا كان يتم فيها السخرية من أعمال الجانب المصرى والتقليل منها. ولعلنا نضرب مثلا شهيرًا لما حدث بين لينان دو بلفون الفرنسى ومحمد بك الدفتردار صهر محمد على حين رفض الدفتردار أن يرافقه الأجانب فى الحملة المصرية الخالصة على كردفان وعاد ومعه بيانات عن السكان وعاداتهم وتقاليدهم وأهم محاصيلهم وسبل عقد تجارة معهم، وفوق كل ذلك رسم خرائط للرحلة وعرضها محمد على على الخبراء الأوروبيين فسخروا منها، وكتب لينان دو بلفون يقول عنها «إنها خرائط قليلة القيمة لا تضم سوى الطرق والمسارات والمسالك، شىء يذكرنا بخرائط العهد الرومانى قبل مئات السنين».

ما من شك أنه كان لدى الخبراء الأجانب تفوق ملحوظ فى علم الجغرافيا غير قابل للمقارنة مع نظرائهم المصريين، ولدينا مثلًا رفاعة الطهطاوى الذى اعتنى بالجغرافيا فى حدود الترجمة ولعل أبرز ما ترجم للعربية كتاب الجغرافى الفرنسى «ملطبرون» Conrad Malte-Brun ولابد من القول إن ترجمة رفاعة تكشف فى الحقيقة عن تواضع مستوى المعرفة الجغرافية لدى رفاعة بك بمعايير ذلك الزمان، وربما كان ذلك دليلًا على ضعف تدريس الجغرافيا فى مصر والتى أخذ محمد على على إثره قرارًا فى عام 1832 بأن تصبح الجغرافيا أحد موضوعات التدريس الرئيسة فى مدرسة الألسن التى كان يرأسها الطهطاوى نفسه.

وفى الختام يجب النظر إلى حصاد الفترة التى عمل فيها الخبراء الأجانب فى القرن 19 باعتبارها جلبت فوائد كثيرة على الجغرافية والاستكشاف فى مصر والسودان وقدمت فرصًا لم تكن متاحة لدى المصريين فى تلك الفترة من الزمن سواء من رسم خرائط أو كتابة تقارير أو مؤلفات علمية ساهمت جميعًا فى نمو الدولة المصرية وتوسع أرجائها وتخومها.

لكن من ناحية أخرى، لا يمكن التغافل عن أنه منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وقع الاحتلال الإنجليزى لمصر والسودان، والفرنسى فى وسط القارة وفى القرن الإفريقى، والإيطالى فى الحبشة وفى ليبيا وهو ما لم يكن ليتحقق إلا استغلالاً لثمار ونتائج حملات العقود السابقة التى كتب فيها الرحالة والخبراء أعمالهم ورسموا خرائطهم فى ظل رعاية وحماية محمد على وخلفائه. بل إن هذه الجهود كلها تمت بتمويل مصرى أرهقت الخزانة المصرية وصبت فى النهاية فى مصلحة الاستعمار الأوروبى الذى احتل القارة الإفريقية وسيطر على منابع النيل وقسم المنطقة.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة