على ضفاف التاريخ، وفى ظل أهرامات الجيزة الخالدة، ينهض المتحف المصرى الكبير (GEM) بوصفه حدثًا ثقافيًا فريدًا لا يقل أهمية عن الأهرامات نفسها. فهو ليس مجرد متحف جديد، بل فعل حضارى شامل يجسد رغبة مصر فى إعادة قراءة ماضيها العظيم برؤية معاصرة، ويعلن عن ميلاد عصر جديد للحضارة المصرية فى القرن الحادى والعشرين.يعد افتتاح المتحف المصرى الكبير لحظة فاصلة فى التاريخ الثقافى العالمى، إذ يمثل أضخم متحف أثرى فى العالم مخصص لحضارة واحدة. لكن قيمته الحقيقية لا تكمن فى حجمه أو عدد مقتنياته، بل فى الفكرة الفلسفية والثقافية التى يقوم عليها؛ أن الحضارة ليست ماضيا يُعرض فى واجهات زجاجية، بل منظومة قيم حيّة قادرة على الإلهام والتجدد.ومنذ البداية، ارتبط المتحف المصرى الكبير بمفهوم إعادة اكتشاف الذات الحضارية. فهو لا يعرض الآثار كرموز جامدة، بل كدلائل على فكر حى ساهم فى تشكيل الوعى الإنسانى منذ فجر التاريخ. كما يعيد المتحف طرح الحضارة المصرية من منظور مصرى، يبرز دور مصر فى إرساء أسس العدالة والنظام الكونى والتوازن بين الإنسان والطبيعة، وهى قيم إنسانية كبرى يحتاجها العالم اليوم فى ظل أزماته المعاصرة. ويبين العلاقة بين المعتقدات ونظام الحكم والمجتمع.وهو بذلك يقدم أيضًا مساحة حوار حضارى مفتوح، يربط بين الماضى والحاضر، ويناقش قضايا الهوية، والتعدد الثقافى، والعولمة، وعلاقة النيل بالحياة.ومن خلال تقنيات العرض الحديثة، الإضاءة الذكية، الوسائط الرقمية، التجارب التفاعلية، يقدم المتحف سردًا بصريًا جديدًا لتاريخ المصريين القدماء، يُشرك الزائر فى التجربة بدلا من أن يجعله متفرجًا عليها. وبهذا يتحول المتحف من مجرد صرح أثرى إلى مختبر للمعنى الحضارى، يلهم الفنانين والكتاب والمخرجين والمبدعين ليعيدوا صياغة الوعى الثقافى المصرى فى شكل أعمال فنية جديدة، من السينما والمسرح إلى الأدب والفنون التشكيلية. إنها بداية محتملة لـ«نهضة فرعونية حديثة» تُعيد لمصر صوتها الإبداعى الخالص.وما من شك فى أن المتحف المصرى الكبير يحمل أيضًا رسالة سياسية حضارية إلى العالم: أن مصر كانت وما زالت قوة إقليمية فاعلة، ومصدرًا للإلهام الأخلاقى والحضارى.فمنذ فجر التاريخ، ساهمت مصر فى صياغة مفاهيم الحكم العادل، والانسجام الاجتماعى، والبحث العلمى، والفن الرفيع. واليوم، يعيد المتحف التأكيد على تلك الرسالة فى زمن يحتاج فيه العالم إلى التضامن والسلام والتكافل الإنسانى.وفى هذا الصدد يجسد التعاون المصرى – اليابانى فى تنفيذ المشروع نموذجًا عالميًا للشراكة الثقافية، يعيد إلى الأذهان الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة، ويبرهن أن حماية التراث هى مسئولية إنسانية مشتركة تتجاوز الحدود والسياسات. وأنه نوع من الدبلوماسية السياسة لحوار إنسانى بعيد عن الأمور الشائكة فى العلاقات الدولية.كما تكمن أهمية المتحف المصرى الكبير فى أنه ليس مكانًا للعرض فحسب، بل جامعة مفتوحة للمعرفة الإنسانية»، وأن يصبح مركزا علميا وتعليميا ملحقا بالمتحف، يعنى بدراسة التراث المصرى بمفهومه الواسع، من الفكر الدينى والفلسفى إلى نظام الحكم والنسق المجتمعية والإنجازات المعرفية فى العلوم والآداب والفنون والعمارة عبر العصور، وعلاقة مصر وجيرانها فى العالم، ودور الحضارة المصرية فى مسيرة الإنسانية والاستمرارية. يضم المتحف أحد أكبر مراكز الترميم فى العالم، ومعامل متخصصة فى دراسة المواد الأثرية والتقنيات القديمة، ما يجعله مركزًا دوليًا للبحث العلمى والتعاون الأكاديمى.ويسعى المتحف أيضًا إلى دمج التكنولوجيا الحديثة فى مجاله، عبر الرقمنة الشاملة للمقتنيات، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعى والواقع الافتراضى فى العروض، والتعليم، والإدارة المتحفية.وبذلك يصبح المتحف ليس فقط حارسًا للتراث، بل منصة للإبداع العلمى والتقنى تربط الماضى بالمستقبل.أيضا أن ننظر إلى المتحف بوصفه جزءًا من النسيج المجتمعى. فإعادة تأهيل المناطق المحيطة به تمثل خطوة نحو تنمية حضرية وثقافية متكاملة، تساهم فى تحسين الخدمات، وتيسير المواصلات، وتنشيط الاقتصاد المحلى ودمجه فى منظومة التنمية المجتمعية من خلال فرص السياحة الثقافية. أما على المستوى الثقافى، فالمتحف يلعب دورًا محوريًا فى تعزيز الوعى المجتمعى بالتراث من خلال «متحف الطفل» وبرامج وورش للشباب والأطفال، تُعيد تعريف الحضارة المصرية كحضارة عمل وإبداع وعدالة وتكافل وجمال.كما يشجع المتحف على تنشيط الإعلام الثقافى بإنتاج وثائقيات وبرامج تفاعلية وألعاب تعليمية تستلهم التراث المصرى، إلى جانب التعاون مع المتاحف الأخرى فى القاهرة والمحافظات لتكوين شبكة متاحف مصرية متكاملة برؤية موحدة وأهداف تعليمية مشتركة.ومن الناحية الاقتصادية، يمثل المتحف المصرى الكبير قاطرة للسياحة الثقافية فى مصر، إذ يتوقع أن يجذب ملايين الزوار سنويًا، ويعيد صياغة خريطة الزيارات الأثرية من أبو رواش إلى الفيوم. وأن يكون المتحف المصرى الكبير البؤرة التى توجه الزوار الى المتاحف الأخرى بالقاهرة والمحافظات.كما سيكون للمتحف دور مهم فى تحفيز الاستثمار السياحى فى المنطقة من خلال دعم الفنادق، والنقل، والمطاعم، والأنشطة التجارية. ويمكن أن يشكل المتحف نواةً لإنشاء منطقة للفنون والحرف والصناعات الإبداعية، حيث تمتزج العمارة والديكور والحُلى والملابس المصرية القديمة بروح التصميم الحديث، ما يخلق اقتصادًا ثقافيًا مستدامًا يربط بين الفن والتنمية. ومن الأبعاد الثقافية المهمة، خاصة فى ضوء الاعمال الفنية التى تتميز بها الحضارة المصرية فى مجال الرسم والتصوير والنحت والموسيقى والرقص أن يلحق بالمتحف أو يجاوره أكاديمية للفنون المصرية للفنانين المصريين والعالميين كساحة للإبداع والعروض الجماعية والفردية على مدار العام، وأن يلحق بها أوركسترا مصرى لتقديم حفلات موسيقية وعروض عالمية مستوحاة من التراث المصرى. إن افتتاح المتحف المصرى الكبير ليس مجرد حدث أثرى أو معمارى، بل بيان ثقافى وفلسفى عن رؤية مصر لمستقبلها. فمن خلال هذا الصرح، تؤكد مصر أن الحضارة ليست ذكرى تُروى، بل مشروع مستمر يُعاد اكتشافه فى كل جيل.إنه مشروع وطنى وإنسانى فى آنٍ واحد، رسالة إلى العالم بأن مصر التى أنارت دروب التاريخ قبل سبعة آلاف عام، قادرة اليوم أيضًا على أن تقدم للعالم نموذجًا جديدًا فى الجمع بين التراث والحداثة، بين المعرفة والخيال، وبين المادة والعقيدة، وأن تؤكد رسالتها الخالدة التى سبقت به العالم فى مجال العدالة الإنسانية والمحبة والجمال. ولا يسعنا إلا أن نتوجه بخالص الشكر والتقدير لكل من ساهموا فى تحقيق هذا الصرح الثقافى بداية من فكرة المتحف للوزير الفنان فاروق حسنى مرورا بكل من عملوا خلال السنوات الماضية فى تصميم وتنفيذ وتجميع المقتنيات والنقل والترميم والعرض والإدارة.
مقالات اليوم نيفين مسعد لما الشريط بيسّف محمد المنشاوي ترامب وأوهام فترة حكم ثالثة! محمد بصل تراجع الزخم.. تفريطٌ في العدالة إبراهيم العريس القضية المهرجانية العربية بين الجونة وقرطاج مرورًا بالقاهرة ووهران (1-4) أيمن النحراوى كيف غيّر إغراق المدمرة «إيلات» الفكر الاستراتيجى البحرى فى العالم؟ قضايا تكنولوجية زمن ما بعد الذكاء الاصطناعى.. رأسمالى أم شيوعى؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك