بعد عامين تقريبًا من بداية مسار التقاضي الدولي لإدانة إسرائيل ومحاسبة قادتها بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة، أصدرت محكمة العدل الدولية في 22 أكتوبر الجاري رأيًا استشاريًا (فتوى) بالالتزامات الإنسانية المقررة على الكيان المحتل تجاه الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة الغربية والمنظمات الأممية المعنية بتقديم المساعدات الإنسانية خلال الحرب وبالأخص وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) ورفضت ادعاءات تسلل عناصر حماس عبر خدمات الوكالة ومؤسساتها واستغلالها في أعمال عنف.
مرت الفتوى –تقريبًا- مرور الكرام، ولم تنل ما تستحقه من اهتمام إقليمي ودولي، في غمار المستجدات اللحظية وتلاعب حكومة بنيامين نتنياهو ومحاولات واشنطن والقاهرة وباقي الوسطاء لتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار الذي من المأمول أن يفضي إلى وقف الحرب وبدء مرحلة إعادة إعمار غزة.
لكن إسرائيل لم تغفل عن التصدي بقوة لتلك الفتوى، نظرًا لما قد يترتب عليها من آثار تراكمية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أعلنت وزارة خارجيتها أنها لن تستجيب لما دعت إليه المحكمة الأعلى في العالم، من ضرورة التراجع عن القانونين اللذين أقرهما الكنيست العام الماضي لقطع التعاون مع الأونروا، وأصرّت على أن استئناف إدخال المساعدات الإنسانية من خلال الوكالة "أمر مستحيل".
لقد كان المُنتظر أن تعطي الفتوى أولوية واضحة للواجبات النظرية التي تقع على عاتق إسرائيل بموجب القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف والمعاهدات المنظمة لمعاملة اللاجئين والنازحين وضحايا الحروب. غير أن حيثياتها الفتوى حملت العديد من النقاط يمكن البناء عليها من خلال فعاليات وقرارات الأمم المتحدة ومؤسساتها. إذ أفردت مساحة واضحة لإدانة ممارسات الاحتلال في القطاع، وفندت مزاعمه بشأن "تسهيل دخول مساعدات إنسانية بصورة غير مسبوقة من خلال مؤسسة غزة الإنسانية".
وذكرت المحكمة من واقع تقارير موثوقة "زيادة ملحوظة في أعداد الوفيات الناجمة عن سوء التغذية، وارتفاع احتمالات حدوث المجاعة، والنقص الحرج في الأدوية والإمدادات الأساسية" استنادًا إلى جهات دولية معتمدة، وبما يخالف جميع معاني "الكفاية والإغاثة" الواردة في اتفاقية جنيف الرابعة.
تحدثت أيضًا عن معاناة أكثر من مليون فلسطيني في غزة من "نفاد كامل للمخزون الغذائي" ومواجهة جميع السكان "مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي بصورة حادة" فضلًا عن تفاقم أزمة المياه والتدني الحاد في إمكانية الوصول إلى مياه الشرب، إلى جانب تأكيد بعض الدول أنها "لم تتمكن من إيصال أي نوع من المساعدات الإنسانية خلال فترة الإغلاق الكامل للمساعدات". واقعٌ تفاقمت خطورته بالهجمات المستمرة على المرافق الصحية وتعليق دخول الإمدادات الطبية، وهي مؤشرات استندت فيها المحكمة إلى تقارير منظمة الصحة العالمية.
تكاملت هذه المؤشرات أمام المحكمة لتدفعها إلى إدانة استخدام التجويع والحرمان من المساعدات كسلاح ضد المدنيين، لترسم صورة قانونية متكاملة لمسئولية الصهاينة العمدية عن جرائم يجب ألّا تسقط بوقف إطلاق النار، ولا فتح مسارات التفاوض أو بدء جهود إعادة الإعمار، ولا بترسيخ حالة الاستباحة الدائمة التي يسعى نتنياهو لفرضها لتنفيذ عمليات قصف خاطفة بتكاليف محدودة ثم ادعاء العودة إلى تنفيذ اتفاق شرم الشيخ.
تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم. لكن العدالة لن تتحقق للضحايا بالمساعي المجرّدة في لاهاي أمام "العدل الدولية و"الجنائية الدولية" بل عبر عمل جماعي لعزل الكيان الصهيوني ورفع تكلفة عدوانه المستمر، وعدم الاكتفاء بما تحقق سواء بالمرحلة الأولى من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو تقليل معدلات الإبادة، واعتبار ذلك إنجازًا.
حذارِ من فقدان الزخم! فمن بعد قمة السلام لاحظنا تراجعًا واسعًا في الخطاب الدولي بشأن الحرب، وكأن القضية فقدت الوهج الذي اكتسبته تدريجيًا وبلغ ذروته في اجتماعات الجمعية العامة بنيويورك الشهر الماضي، ما لعب دورًا واضحًا –إلى جانب أسباب أخرى- في دفع ترامب للضغط على "بيبي" حتى لا يحارب العالم وحده، على حد قوله.
واهمٌ من يظن أن هذه الفتوى أو سابقتها الصادرة في يوليو 2024 بشأن التزامات إسرائيل كقوة احتلال في الأراضي الفلسطينية، سوف يترتب عليها تحقيق العدالة الناجزة أو المساءلة الناجعة. لكنها توفر قاعدة انطلاق لتطوير مواقف الدول الداعمة فرادى وجماعات بالحصار –أو التضييق- السياسي والاقتصادي على الصهاينة، وتقليص التعاون في جميع المجالات المرتبطة بالإبادة والأنشطة الاستعمارية والمستوطنات، كموقف مبدئي وللضغط على نتنياهو لإبقائه في مضمار التهدئة.