إطلالة على نموذج استيطانى نسائى

الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 6:00 م

فى كتابها: «انتفاضة على ضفاف نهر هديسون» (نهر يجرى من الشمال إلى الجنوب، مخترقًا شرق ولاية نيويورك) تكشف، أوفير ديان، (مستوطِنة إسرائيلية، وضابطة على قوة الاحتياط بالجيش الإسرائيلى، وحاصلة على درجتى الليسانس والماجستير من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية فى العلاقات الدولية، ورئيسة سابقة لتنظيم «طلبة داعمون لإسرائيل» بجامعة كولومبيا، وباحثة فى مجال الأمن القومى بمعهد الأمن القومى الإسرائيلي) كيف تحولت صورة اليهود فى العالم، بعد حرب الإبادة على غزة، من (مستضعفين) إلى قمعيين، وكيف أصبحت كلمة «صهيونى» لعنة؛ لكنها تكشف، من ناحية أخرى، جوانب مهمة، أيضًا، من تشكيل وعى شخصية المستوطن، تشمل النشأة، والتلقين الأيديولوجى، ونوعية التعليم.

نشأت، أوفير ديان، وتبلورت شخصيتها، فى مستوطنة «معليه شومرون»، التى تضم أقل من ألف مستوطن، وتتبنى خطًا أيديولوجيًا يمينيًا واضحًا، رغم وجود نسبة من العلمانيين بها، وهو ما يتضح من نتائج انتخابات 2025م، حيث صوَّت أكثر من 43% من سكانها لحزب «الصهيونية الدينية»، وأكثر من 31% لحزب «الليكود»، وأكثر من 5% لحزب "البيت اليهودي"، الذى لم يتجاوز نسبة الحسم، وكلها أحزاب يمينية متطرفة؛ فضلًا عن أن الأغلبية الساحقة من سكانها يصفون أنفسهم بأنهم صهيونيون ويمينيون. ستترك النشأة، وسط هكذا جو، أثرًا على طريقة تفكير هذا النموذج الاستيطانى، وستصوغ رؤاه المستقبلية.

من ناحية أخرى، وُلدت، أوفير ديان، لأبوين مشبعيْن بالأيديولوجية الصهيونية، قررا الانتقال من تل أبيب للإقامة فى المستوطنة، المذكورة آنفًا، خلال الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993م)، لتعزيز الوجود اليهودى بها، الذى لم يكن أمرًا بدهيًا فى حينه؛ لذا لم يكن مستغربًا، أن تصف نفسها بأنها مستوطِنة عن اختيار.

من الجوانب الأخرى، المؤثرة، الانخراط فى أطر وتنظيمات أيديولوجية، تتسق مع الرؤى الاستيطانية. فقد التحقت، أوفير ديان، فى سن مبكرة جدًا -الخامسة- بحركة الشبيبة، الصهيونية، "بيتار"، وهى حركة صهيونية أسسها الزعيم الصهيونى، المتطرف، زئيف جابوتنسكى عام 1924م، كان من بين المهام التى نيطت بأعضائها، فى حينه، تشجيع الهجرة إلى فلسطين والاستيطان بها، والسعى لإقامة دولة يهودية على ضفتى نهر الأردن. تجدر الإشارة إلى أن جابوتنسكى كان شاعرًا وناثرًا وكتب، ضمن ما كتب، قصيدة عنوانها: "للنهر (نهر الأردن) ضفتان- هذه لنا وتلك أيضًا".

المعنى أن، أوفير ديان، المستوطنة، تشربت الأفكار الاستقوائية لجابوتنسكى، وأفكار ما يُسمَّى "أرض إسرائيل الكاملة". وقد أهلتها هذه التنشئة، المبكرة، إلى أن تصبح، فى سن الثالثة عشرة، مدربة وموجهة بهذه الحركة، نفسها، ثم مسئولة، وهى لم تزل بعد فى المرحلة الثانوية من الدراسة، عن فرع الحركة بالمستوطنة، التى تقيم بها، مع السعى نحو ممارسة وتطبيق أفكارها على أرض الواقع.

• • •

يتيح القانون الإسرائيلى، للمرأة، التى تعلن أنها متدينة، ألاَّ تتجند فى الجيش، غير أن، أوفير ديان، ورغم تدينها، لم تتهرب من الخدمة العسكرية، بدعوى التدين، وحبذت الانخراط فى الجيش. تلفت، أوفير ديان، خلال فترة تجندها بالجيش فى وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، الانتباه إلى مسألة مهمة، تتعلق بـاليسار الإسرائيلى، الذى ينخدع كثيرون فيه، ألا وهى التشابه الكبير بين رؤاه ورؤى اليمين المتطرف، لدرجة التعايش بينهما، إذ تقول: "على الرغم من أن الوحدة تعد يسارية للغاية، فإن قيم زملاء الخدمة وقيمى -القيم الصهيونية وقيم حب الأرض- كانت، بشكل عام، متشابهة للغاية".

من البديهى، بعد هذه النشأة، والمدخلات المختلفة، أن تكون المحصلة انعكاسًا لكل روافد التغذية الفكرية، خاصة فى ما يتعلق بتبنى السردية الإسرائيلية، والترويج لها. لذا، تشعر، أوفير ديان، بالصدمة والكآبة إذا ما ناقض أحدهم السردية الإسرائيلية، سيما إذا كان له ثقل على الساحة الإعلامية العالمية. فحين شغلت منصب المتحدثة باسم اللواء (188)، خلال حرب «الجرف الصامد» على قطاع غزة عام 2014م، ودعت، بحكم منصبها، ممثلًا لإحدى وكالات الأنباء العالمية ذات الانتشار الواسع والشهرة العريضة، رافق قائد اللواء بداخل القطاع، وشرع يوجه إليه أسئلة حول قتل المدنيين الأبرياء وحول سائر الأهوال التى ترتكبها القوات الإسرائيلية، أصيبت بالصدمة لخروجه على السردية الإسرائيلية، واتخذت، على الفور، قرارًا باستبعاده من تغطية مجريات الحرب، حتى لا يكون لتغطيته الإعلامية تأثير على الرأى العام العالمى: «ساعتها أدركت اتجاهه ونوع التغطية الإعلامية المتوقعة. وقفت هناك مصدومة. إذا كانت هذه هى أفكاره، فما آراء قرائه؟ وهم يتغذون عليها ويعدونه حجة فى كل ما يتعلق بإسرائيل والنزاع مع الفلسطينيين. حاولت أن أكبت الشعور بالانقباض والفهم بأن الخلاص لن يأتى من مراسلين من هذه النوعية، ينشرون رؤى مضللة عن إسرائيل فى العالم».

• • •

يفضل هذا النموذج الاستيطانى الانغلاق، بشكل عام، على التعليم الذى تلقاه، وعلى الآراء والأفكار التى شب عليها، ويخشى، فى المقابل، من الانفتاح على عالم غير العالم الذى عهده؛ وهو ما يدل عليه رد فعلها، حين سألها القنصل العام لإسرائيل فى نيويورك، "لماذا لا تأتين للدراسة فى نيويورك؟"، إذ قالت: "فى البداية أضحكتنى الفكرة. لقد خططت لأن أقضى سنوات الدراسة بالجامعة العبرية بالقدس. كان من المريح بالنسبة لى أن أقضى معظم وقتى مع أناس لهم آراء مماثلة لآرائى حد التطابق. باختصار، قررت ألا أبرح المنطقة المريحة بالنسبة لي". لكنها، حين اقتنعت، أو بالأحرى حين أقنعها أحدهم بأهمية الدراسة فى جامعة أمريكية مرموقة، مثل جامعة كولومبيا، كان الهم الإسرائيلى نصب عينيها فى المقام الأول: "فكرت فى أن أكتسب تعليمًا ممتازًا بجامعة كولومبيا وأن أسهم فى الوقت نفسه من أجل تحسين صورة إسرائيل فى العالم".

• • •

يصعب على مثل هذا النموذج، وهو خارج إسرائيل، أن يكون نسيجًا من نسيج المجتمع الأجنبى، ومن ثم، يبحث عن إطار يهودى يحتويه: "أدركت، بسبب الجموع الغفيرة من الناس، خاصة، أنه سيكون من الصعب عليَّ للغاية أن أقضى السنوات التالية من دون جماعة يهودية داعمة ومن دون إطار أستطيع العمل به فى القضايا المتعلقة باليهودية وبإسرائيل"؛ ومن ثم انضمَّتْ، أوفير، إلى تنظيم يهودى، يُسمَّى، "هليل" (مركز الحياة اليهودية بالجامعات)، وهو تنظيم له فروع فى أكثر من 800 جامعة أمريكية، لكنها، ولكونها منغلقة على أفكار بعينها، بسبب النشأة والتكوين، قررت تركه لأن فرعه فى جامعة كولومبيا، استضاف، ذات مرة، نشطاء من منظمة «كسر الصمت»، الإسرائيلية، التى يجمع أفرادها شهادات حية ووقائع على الأرض لممارسات وحشية ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية ضد فلسطينيين فى الضفة وغزة: «لم أكن على ثقة من أننى أريد أن أكون جزءًا من تنظيم يستضيف متحدثين يشوهون سمعة إسرائيل ويضرون بالدولة فى الساحة العالمية المهمة (...) بحثت عن شىء ما آخر، عن تنظيم أشعر فيه كأننى فى بيتى من اللحظة الأولى».

ومن هنا كان انضمامها إلى تنظيم صهيونى آخر، يُسمَّى: «طلبة داعمون لإسرائيل» فى جامعة كولومبيا (SSI). يؤمن أعضاء التنظيم بأن دولة إسرائيل يجب أن تستمر فى الوجود كدولة يهودية، (بمعنى: دولة قائمة على قوانين الشريعة اليهودية، خالصة لليهود وحدهم من دون فلسطينيى الداخل، بمن فيهم حتى الدروز، الذين يخدمون فى الجيش) والأهم من ذلك أنهم يريدون المساعدة فى تحسين صورتها فى الحرم الجامعى.

• • •

لا يجد هذا النموذج الاستيطانى غضاضة فى تقديم تنازلات مبدئية، إذا رأى أنها تخدم هدفًا أسمى، لذا لم تترك تنظيم «طلبة داعمون لإسرائيل»، مثلما تركت، فى السابق، تنظيم «هليل»، رغم أن أعضاء التنظيم الجديد لا يشاطرونها الإيمان بمفهوم «أرض إسرائيل الكاملة»، حيث تقول: «أنا، تلميذة زئيف جابوتنسكى، وأؤمن بأرض إسرائيل الكاملة وباستيطان واسع فى «يهودا والسامرة»، كثير من أعضاء التنظيم لا يؤمنون بذلك، لكن سرعان ما فهمنا جميعًا أن الاختلاف فى الرأى بيننا لا مجال له ببساطة حين تكون نبرة الأشخاص الذين حولنا هى تأييد محو إسرائيل من الخريطة».

يشعر هذا النموذج، المنغلق على أفكاره، بالصدمة، خاصة إذا التقى شبابًا غربيين يؤيدون حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم وإقامة دولة مستقلة، وذلك لأنها نشأت فى بيئة صهيونية يهودية متجانسة فكريًا، لكنها سرعان ما أدركت بعد مجيئها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أن إسرائيل تفقد الشباب الغربى.

ثمة تفسيرات كثيرة جدًا للتحولات العميقة التى مر ويمر بها الشباب فى الغرب، لكن هذا النموذج الاستيطانى يراوغ فى تفسير الظاهرة، ولا يريد مقاربة الواقع، ووضع يده على الأسباب الحقيقية لهذا التحول، ومنها الوحشية الممنهجة فى التعامل مع الفلسطينيين، وانفتاح الشباب على سرديات أخرى أكثر وجاهة من السردية الإسرائيلية، التى كانت سائدة. لذا، تُرجع، أوفير ديان، الأمر إلى مسببات هلامية كالقول بأن الصهيونية لم تعد فكرة آسرة فى نظر الشباب الغربى المثقف، لأنها فى نظرهم تتعارض مع الحفاظ على حقوق الإنسان وسائر القيم العالمية، والقول بأن الشباب، بطبعه، يحب التجديد والتآمر على النظام القائم، والقول بأن مفهوم الأخلاق والعدل لدى العديد من الشباب فى الغرب قد تغير فى السنوات الأخيرة.        

 

أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة 

 

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة