x قد يعجبك أيضا

جوهر الصقلـ(بـ)ـى!

الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 6:01 م

قليل من المؤرخين يرسم لنا اسم القائد العسكرى الذى تقدم جيش الفاطميين بصيغة «الصقلبى»، فى مقابل الأغلبية التى ترسمه على صيغة «الصقلى»، ومن ثم يتسرب إلى خيالنا أن جذوره من جزيرة صقلية فى البحر المتوسط.

المدهش أن المقريزى وهو مرجعنا العظيم قبل نحو 600 سنة تحاشى أن يكتب الاسم بصيغة «الصقلبى» أو «الصقلى» وكان دومًا يبادل الرسم عشرات المرات إما باسم «جوهر القائد» أو «القائد جوهر».

تزداد الإثارة حين نعرف أن تخطيط مدينة القاهرة مع الغزو الفاطمى ضم واحدة من الحارات الشهيرة التى حملت اسم «الصقالبة» وخصصت لطائفة من الجند جاءوا برفقة الجيش الفاطمى الزاحف من المغرب معتنقا المذهب الشيعى الذى لا علاقة له بالضرورة بجذور هؤلاء الصقالبة الذين جاءوا إما من جذور وثنية أو مسيحية قبل أن يعتنقوا الإسلام لاحقا.

قبل سبع سنوات وفى قلب العاصمة موسكو، وفى مؤتمر عن العلاقات العربية الروسية، انتظر أستاذ عراقى وقور بعد انتهاء إلقاء ورقتى البحثية وسألنى بكل مودة: «لماذا أجمع المؤرخون والجغرافيون قبل ألف عام على تسمية الروس باسم «الصقالبة»؟ ما معنى هذه الكلمة وكيف دخلت إلينا؟

احتجت أربعة أعوام حتى أتوصل إلى الإجابة، فخلال ترجمتنا لكتاب «تاريخ روسيا من القبيلة إلى الأمة» تبين لنا من خلال ما قدمه المؤرخ والجغرافى السوفيتى الشهير «ليف غوميليوف» أن تحريفا معتادا حصل فى نقل الأسماء البيزنطية إلى الصياغة العربية.

 

لقد كان البيزنطيون فى جنوب شرق أوروبا وحوض البحر الأسود هم الأكثر اتصالا بأجداد الروس وقد شاع بينهم الاسم على صيغة «سكيلاﭪ» وهذه الكلمة الأخيرة هى نفسها التى تعرفها اللغات الحديثة باسم «السلاﭪ».

وحين نقل العرب كلمة «سكيلاﭪ» من اليونانية قلبوا الفاء إلى باء، وهى عادة تتكرر فى كثير من الحالات، ومن ثم أصبح اسم الشعوب التى ينتمى إليها الروس «سكلاب» ومنه «صقلاب» و«صقالبة» وهو الرسم الذى ينتمى إليه جوهر الـ«صقلبى».

الصقالبة إذن هم الروس فى تعميم مخل، لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل. فشعوب الصقالبة أو السلاﭪ هم مجموعة بشرية كبرى تشمل الروس وغيرهم، وهى مجموعة «لغوية» بمثل ما هى «عرقية» أو جنسية وقد دأبت المصطلحات الأجنبية على أن تجمع الصفتين معا فى مسمى ثنائى «لغوى عرقى» ethnolinguistic.

والحقيقة أن الاستغلال السياسى للتصنيفات الجنسية والعرقية جد خطير وتسبب فى حروب وكوارث على البشرية تجلت فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حين استخدمت النظريات العلمية لتسويغ أفضلية عرق على آخر، والتى تجلت فى أن العرق النوردى أو التيوتونى أو الألمانى هو أرقى الأجناس وأعلاها ذكاء ومقدرة، ومن ثم قامت النظرية النازية التى ترجمت على أرض الواقع إلى حروب ودمار بدعوى أفضليتهم على بقية الأجناس رغم ما اتضح لاحقا من تهافت هذه النظريات وعدم وجود أساس علمى لها.

دعونا نبقى مع الصقالبة أو السكيلاف (السلاﭪ) الذين جاء منهم جوهر القائد لغزو مصر كطليعة للإمبراطورية الفاطمية.

تشمل شعوب السكيلاﭪ (السلاﭪ) أطيافا كبيرة تتجاوز الشعب الروسى، إذ تضم شعوبا عدة فى شرق أوروبا، وقد تم تصنيفهم جغرافيا إلى ثلاث شُعب:

- سلاﭪ الشرق (الروس ــ البيلاروس ــ الأوكران)

- سلاﭪ الغرب (السلوفاك ــ التشيك ــ البولنديون)

-  سلاﭪ الجنوب أو الـ «يوجسلاﭪ» وهو مسمى استعارته تلك الجمهورية التى تفككت قبل 30 سنة وفقدت اسمها لصالح جمهوريات أصغر (مثل صربيا والجبل الأسود وسلوفينيا وكرواتيا والبوسنة) ومعهم أيضا البلغار والمقدونيين.

على هذا النحو فإن وصف جوهر القائد بأنه جوهر الصقلـ(بـ)ـى يعنى أنه من تلك الشعوب التى عرفت باسم السلاف أو السكلاب (الصقالبة) وفق التحريف الذى جاء من النقل العربى عن الأصل اليونانى.

كيف وصل جوهر الصقلبى إلى البلاط الفاطمى وترقى فيه إلى أن أصبح فاتح مصر المغوار؟

ترجعنا المصادر إلى سردية متكررة وهى أن جوهرا كان من بين الأسرى أو العبيد الصقالبة الذين تم بيع والده لمن يشترى من القوى الكبرى، حتى ترقى جوهر الابن فى المضمار العسكرى ليصبح قائدا، على غرار حالة المماليك التى ستعرفها مصر بشكل أوضح فى القرون التالية.

جوهر القائد أو جوهر الصقلبى ينتمى وفق هذه المصادر إلى طبيعة حروب المرتزقة التى شاعت فى القرنين التاسع والعاشر قبل أن تكون هناك دولة اسمها روسيا بالمعنى السياسي، وقبل أن تكون هناك إلا إمارات متناحرة فى شرق أوروبا تنتمى كلها إلى المجموعة اللغوية-العرقية المسماة سكيلاﭪ.

فى هذه الحروب كان السكيلاف (السلاﭪ أو الصقالبة) يتطوعون للعمل لصالح القوى الكبرى المحيطة بالبحر الأسود جراء مبالغ من المال وإقطاعات من الأرض، وكانوا يعملون أجراء مرتزقة لصالح بيزنطة المسيحية والخزر اليهودية والخلافة الإسلامية.

لم تكن هناك دولة تجمعهم بشكل شامل، وكانوا يتطوعون للعمل الحربى بأنفسهم مقابل أجر ومال أو يتم بيع المهزومين منهم فى سوق الأسرى حال هزيمتهم.

اكتسب السكيلاف بأسهم وقوة شكيمتهم وتيبس مشاعرهم فى القتل والنحر من البيئة الصعبة فى شرق أوروبا. كانت المنطقة فيما بين البحرين الأسود وبحر البلطيق قبل ألف سنة لا تصلح إلا ليعيش فيها ما يمكن تسميتهم أناس أشداء صورتهم بعض أفلام هوليوود وحوشا كاسرة أو آكلى لحوم البشر.

حين شن الفاطميون هجومهم على مصر بقيادة جوهر الصقلـ(بـ)ـى كانت أهم دولة للصقالبة فى شرق أوروبا هى إمارة كييـﭪ الروسية، كييـﭪ نفسها هى التى تحمل اسمها اليوم عاصمة أوكرانيا التى تشهد الحرب والتدمير منذ عام 2022.

على هذا النحو يمكن القول إن حوادث التاريخ تبدو فى الظاهر بعيدة ومتفككة وكأنه لا علاقة للقرن العاشر الميلادى بالقرن الحادى والعشرين، كما يبدو من الظاهر أنه لا علاقة لمصر والمغرب قبل ألف سنة بالسكيلاف أو الروس والأوكران فى كييف فى شرق أوروبا.

لكن الحقيقة أن العلاقات وثيقة ومتشابكة ليس فقط على المستويات اللغوية وجذور الكلمات (الصقلبى وحارة الصقالبة فى القاهرة) بل وعلى المستوى الجيوسياسى وانتقال تجارب الأمم عبر العصور وخريطة العالم.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة