الدبلوماسية هى آلية للتفاوض خاصة بين الدول. إنها فن، لكنها غالبًا لا تُبدى صراحة لا أمام الإعلام ولا خلال التفاوض الأهداف الحقيقيّة للمتفاوضين أو للوسطاء. وهى تشكل بالتأكيد وسيلة لحل النزاعات وتجنب الحروب، لكنها تتضمن أيضًا قدرًا كبيرًا من الخداع، بل تستخدم فى كثير من الأحيان مفاهيم مواربة للتمويه عن الأهداف الحقيقية.
هكذا لم تُفصح الجهود والخطابات الدبلوماسية خلال الحروب الأهلية التى انطلقت فى عدة بلدان عربية بعيد انتفاضات «الربيع العربى» عن الأهداف الحقيقية للدول التى كانت تتصارع عسكريًا، مباشرة أو بالوكالة على الأرض، بينما تتفاوض فى الوقت ذاته فى أروقة الأمم المتحدة وغيرها حول مآلات تلك الصراعات، ثم تأتى قرارات من مجلس الأمن لتُمثّل نوعًا مما تتوافق عليه القوى الكبرى لكن مع صيغ تسمح بتأويلات متعددة بالنسبة للأطراف التى حافظت على قدراتها وعلاقاتها، وصيغ أكثر وضوحًا تجاه الأطراف التى خسرت رهاناتها. وكما فى حال جميع قرارات مجلس الأمن التى تخطت «الفيتو»، تبقى هذه القرارات حبرًا على ورق بالنسبة للأطراف القادرة بانتظار مرور الزمن وتغيير الواقع نحو توازنات جديدة. فماذا كانت الأهداف الحقيقية للأطراف التى تفاوضت «دبلوماسيًا» ووراء توافقات قرارات مجلس الأمن فى حروب ليبيا وسوريا واليمن؟
• • •
منذ سنة، شرعت إسرائيل فى حرب إبادة جماعية فى غزة دون رادع. واضح أن هدفها هو إنهاء وضع قطاع غزة كسجن كبير، ما كان متاحًا لاحتواء أهلها لفترة، لكن أيضًا للقضاء على وضعية القطاع الخالى من المستعمرات، كأوّل لَبنة لدولة فلسطينية ذات سيادة على أرض. هدف حرب الإبادة هو الانتقال إلى تمدد أرض "دولة إسرائيل" إليه ومحو مدنها وتراثها لتحويلها إلى «دبى» جديدة تصبح نهاية خط اقتصادى يمتد بين إسرائيل ودول الخليج وترسيخ أبعاد جيوسياسية جديدة. هذا بالتوازى مع العمل على ضم الضفة الغربية أيضًا، بمباركة أمريكية فى البداية كما حدث للقدس والجولان السورى، مع الإبقاء على سلطة فلسطينية لا حول لها سوى إدارة اندماج الشعب الفلسطينى فى المخطّط أو ترحيله.
إلا أن لغة الدبلوماسية وخطاباتها العلنية بقيت تتحدث عن حل الدولتين فى ذات الوقت الذى تتم فيه إزالة مقومات أية دولة فلسطينية. صلافة ما بعدها صلافة لتضليل رأى عام ومبادئ إنسانية، رغم وضوح الإبادة الجماعية. وموازنة هذا الخطاب للتمويه بين حل الدولتين وبين حق إسرائيل فى الدفاع عن النفس، هى وحدها، ضد مقاومة اتّهمت بالتطرف والإرهاب وكأنها لم تنشأ أصلًا فى مواجهة تطرف وإرهاب الطرف الإسرائيلى.
لقد مضت سنة من التفاوض والدبلوماسية دون نتيجة سوى أن تُكمِل إسرائيل خطتها الحقيقية وفرض واقع جديد يغير ترتيب المنطقة عبر مفاوضات، ليس مع الغزاويين والفلسطينيين بل مع الدول المحيطة والمهيمنة. لكن حول ماذا؟ وها هو لبنان يتعرض لبداية عدوان صلف غير مسبوق، بعد استكمال تدمير غزة، فى حين تنشط الدبلوماسية من جديد، لكن ما الهدف الحقيقى لإسرائيل من ورائه؟ كان وقف إطلاق للنار فى غزة كافيًا لتسوية الأمور، خاصّة بعد تدمير القطاع.
إن حزب الله، مثله مثل حماس وقبلها، لم ينشأ إلا من جراء الاحتلال الإسرائيلى وهو كان يعرف منذ بداية حرب الإبادة فى غزة أنه سيكون المستهدف التالى بغية «إعادة ترتيب المنطقة». لقد التزم بقواعد اشتباك تماشيًا مع الدبلوماسية المُعلنة، لكن ذلك لم يردع القادة الإسرائيليين ولم يغيّر السعى لتحقيق الأهداف الحقيقية للعبة الإقليمية والدولية القائمة واستغلال الفرص.
لقد أُضعِف لبنان منذ تُرك حاكم مصرفه يلعَب سنوات بـ«الهندسات المالية» فى ظلّ إطراءٍ دولى بينما كان البلد مفلسًا ولكى تتبخّر عشرات مليارات الدولارات من ودائع طبقته الوسطى. وكان بمستطاع الدول الفاعلة الضغط لدرء هذه الكارثة. وأُضعِف لبنان منذ أن عملت الدول الخارجية على اللعب على دعم هذا الزعيم الطائفى أو ذاك، كما فى زمن مرض الإمبراطورية العثمانية، كى تتعطل المؤسسات السياسية ويتوقف أى إصلاح وكى تضعُف الدولة بينما يعتاش جنود جيش البلاد من المساعدات الخارجية. وأُضعِف لبنان حين تم تعطيل أى توافق سياسى فى سوريا للخروج من كارثة الحرب الداخلية والتقسيم ومُنعت أية إعادة إعمار فى سوريا، ليبقى لبنان حاملًا لعبء لاجئات ولاجئين سوريين يشكلون اليوم ثلث سكانه. بل أُضعِف لبنان قبلها عندما تم زج أطرافه جميعها فى الحرب السورية، تمويلًا وتوريدًا للسلاح أو فى القتال. فماذا كان الهدف الحقيقى من وراء إضعاف لبنان على المدى الطويل؟ أمن أجل هذه اللحظة التى تستبيحه فيها العنجهية الإسرائيلية؟ وما فائدة «الدبلوماسية» الإقليمية والدولية اليوم إذا لم تكُن لوقف العدوان عليه؟
• • •
إن الخطاب الدبلوماسى العلنى يُركّز على أشياء أخرى. «وقف التصعيد الإسرائيلى» مقابل وقف إطلاق النار من الجانب اللبنانى.. وحده. و«عودة سكان شمال إسرائيل وجنوب لبنان إلى ديارهم»، وليس عودة أهل قطاع غزة إلى ديارهم «، تجنّب توسعة الصراع إلى صراع إقليمى»، كما حصل فى بداية حرب غزة، فى ظل التهديد الإسرائيلى اليوم باجتياح برى للبنان وسوريا، وكأن الصراع ليس إقليميًا فى الأصل. خطاب يعزز مخاوف أن أهداف المرحلة الحالية أبعد بكثير مما حصل فى جولات العدوان السابقة. والدليل هو الجهد الإعلامى الكبير الذى يبذله الإسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعى لشرذمة الوحدة الوطنية فى كل دول الجوار. كأن يُقال مثلًا إنّ إسرائيل تنتقم اليوم للسوريين!
لكن ماذا عن دبلوماسية دول الإقليم؟ خطابات رنّانة هنا وهناك ووساطات لا تبدو جدواها، كما فى حال غزة، ما يدعو إلى التساؤل عما إذا كانت دول المنطقة تعى حقًا مصالحها ومآلاتها المستقبلية؟ لماذا تترك بعض هذه الدول قنواتها الإعلامية تروج لوجهات النظر الإسرائيلية وتنخُر فى الانقسامات السياسية الطائفية والعرقية لدى الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين وغيرهم؟ ولماذا يبقى النهج الدبلوماسى عند كل الأطراف ضمن لعبة التمويه القائمة؟
• • •
نحن فى مشهد يشبه ما عرفه الغزو الصليبى، مع فارق أن هناك دبلوماسية دولية تصل إلى كل بيت وإعلام منتشِر بقوّة. بلدان المشرق كانت غارقة فى صراعاتها الداخليّة وعلى السلطة والبزخ والتوسع. وخلافة عباسية رمزية لا حول لها ولا قوة. سلاجقة أتراك سنّة يتصارعون مع بويهيين إيرانيين ديالمة إسماعيليين وشيعة وفاطميين عرب وأمازيغ إسماعيليين فى القاهرة. «إمبراطوريات»، جميعها متعددة الأديان والمذاهب والأقوام، تعاونت مع أعدائها الواحدة ضد الأخرى. ثم سقطت جميعها وتم احتلال بلاد الشام وبيت المقدس، بانتظار الزنكيين والأيوبيين، ولكن بعد عقود طويلة ومآسٍ إنسانية كبيرة.
واضح أن أبناء هذه المنطقة، من زعماء البلدان والطوائف، لم يتعلموا شيئًا من تاريخهم.. لصنع مستقبلهم.